أجوبة لأسئلة حول أهل الحل والعقد
كتب إلي أحد اﻹخوة مستفسرا عن عدة أمور حول كتاباتي عن ( أهل الحل والعقد ) وضرورة حصر القرار في المسائل الكبرى بهم.. ووصلت تساؤﻻته إلى أربعة، سأتناول اﻹجابة عنها سؤاﻻ سؤاﻻ في المقاﻻت اﻵتية المتتابعة…
السؤال اﻷول:
إذا كانت هيئة أهل الحل والعقد غير موجودة اليوم، فكيف يجوز أن نعلق حكما شرعيا على وجودها…!!؟؟
وفي اﻹجابة عن هذا أقول:
إذا لم تكن هيئة أهل الحل والعق موجودة اليوم بمعناها الدقيق الشامل كما كانت موجودة في الماضي، فإن الواجب الشرعي على المسلمين العمل على إيجادها بأي صيغة من الصيغ، وجوبا كفائيا بالقدر المستطاع، وما ﻻ يدرك كله، ﻻ يترك جله.. وﻻ يجوز ﻷحد – فردا كان أوجماعة – أن يجعل من نفسه بديلا عنها، يقرر ويحكم في القضايا الكبرى المناطة باﻹمام أو نائبه.. وإنما يبقى الحكم في مثل هذه المسائل معلقا على وجودها اضطرارا، والضرورات تبيح المحظورات…
ومن الضروري في هذه الحال أن يبين للناس حكمها وحكم تعليقها، ليهتموا في العمل على إيجادها بالقدر المستطاع، ولو على سبيل البلدة الواحدة على اﻷقل – كما فعلنا في حلب قبيل اﻷزمة الحالية – كخطوة أولى، أو على سبيل القطر الواحد إن أمكن – كما هو موجود حاليا بشكل ما في بعض بلاد المسلمين – باسم المشيخة اﻹسلامية، أو باسم هيئة كبار العلماء… فالقاعدة الشرعية تقول: ( الميسور ﻻ يسقط بالمعسور ).
ومثل أمرها عندئذ، مثل القاضي الشرعي الذي تناط به إقامة الحدود الشرعية وتطبيقها، فإذا لم يوجد يوما ما، وجب على اﻷمة السعي ﻹيجاده وجوبا كفائيا، وﻻ يجوز ﻷحد أن يجعل من نفسه بديلا عنه، فيقيم الحدود الشرعية من جلد أو رجم أو قطع… نظرا لما قد يترتب على ذلك من مفاسد وثارات وفتن… ويأثم الجميع إذا لم يسعوا في ذلك، وﻻبد مما ليس منه بد… وإلى المقالة التالية إن شاء الله…
السؤال الثاني:
يقول السائل: إن تنازل اﻷقل عن رأيهم للأكثر يصعب تطبيقه عمليا، فكل عالم يتمسك باجتهاده، فكيف تطالبون بذلك!!؟
وفي اﻹجابة عن هذا أقول:
ليس من الصعب أبدا على أهل التقى والعلم أن يتنازل قليلهم لكثيرهم عند اختلاف اﻻجتهاد في قضية عامة تتعلق بعموم اﻷمة، ما دامت مسألة رأي واجتهاد، وليست مسألة نص شرعي قاطع، وذلك دفعا لمفسدة افتراق كلمة اﻷمة واختلافها في مثل هذه المسائل الكبرى…
وإنما يصعب التنازل عن الرأي في مثل هذا على من ابتلي باﻹعجاب بالرأي المهلك الذي أشارت إليه اﻷحاديث الشريفة (…وإعجاب كل ذي رأي برأيه) الذي يقدم صاحبه مصلحة تمسكه برأيه واجتهاده على مصلحة اﻷمة، فيلحق بها الفساد والدمار!!!
وإن الذي يصعب عليه هذا التنازل عند الحاجة، ينبغي استبعاده أصلا من هذه الهيئة، ﻷن وجود مثل هذا يضر وﻻ ينفع، ويفرق وﻻيجمع… ويكتفى باﻹفادة من رأيه من خارج المجموعة.
وقد صرح صلى الله عليه وسلم بوجوب ابتعاد مثل هؤﻻء عن معالجة قضايا اﻷمة، موجها لهم إلى معالجة نفسه أوﻻ… فقد جاء في الحديث الشريف:
(… حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام ..)، وقد جربنا والحمد لله هذا التنازل عمليا، وتعاهدنا عليه ونفذناه في كثير من لقاءاتنا العلمية والدعوية، فما وجدنا فيه صعوبة، بل حقق لنا خيرا كثيرا، وسدادا في مواقفنا، مما زادنا حرصا على تطبيقه، والحمد لله الموفق والمسدد أوﻻ وآخرا..
المقالة الثالثة:
حول عدم الوقوف على اشتراط أهل الحل والعقد عند علمائنا المتقدمين!!؟ فهل يوافقك أحد على هذا اﻻشتراط؟
وفي اﻹجابة عن هذا، أقول:
نعم، قل أن نجد الحديث عن أهل الحل والعقد عند علمائنا المتقدمين، واشتراط قرارهم في القضايا العامة، وذلك لتحقق وجودهم سابقا بأشكال متنوعة، ولأن المسألة من المسلمات عندهم، فلا يحتاجون إلى التركيز عليها، وﻻ سيما بوجود اﻹمام عندهم، وهو اﻷصل، وهم أهل بيعته في كل عصر…
إﻻ أن اﻹمام الجويني -رحمه الله – سبق عصره، فنص عليه في أكثر من موقع في كتبه، وأكد هذ الضرورة، وكأنه توقع احتياج المسلمين إليه في اﻷزمان المتأخرة، فكان ذكره لذلك نوعا من الفقه الفرضي المفيد في كثير من اﻷحوال.. ثم اشتدت الحاجة إلى وجود هذه الهيئة بعد سقوط الخلافة، وغياب اﻹمام المسلم في كثير من البلدان، وغفل عن أهمية وجودهم كثير من العلماء والدعاة، فقصروا في السعي ﻹيجادها، أوصعب عليهم ذلك، فلجأوا إلى تشكيل جماعات خاصة، رأوا فيها ما يغني عنها في اجتهادهم، فأخطأوا التقدير…
وقد كان لي شرف المبادرة إلى طرح هذا الموضوع، فكتبت فيه بحوثا عديدة، وألقيت عنه محاضرات في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية والدعوية في العالم… كما ناقشت أهمية الموضوع في حلقات حوار خاصة وعامة مع عدد من العلماء والدعاة، واتفق الجميع على أهميته، واتخذت فيه بعض التوصيات والمقررات، وكان آخرها منذ شهور في المؤتمر العلمي العالمي لخدمة اﻹنسانية، ونشر بحثي المقدم إليه على صفحتي الخاصة، بعنوان (اﻻجتهاد الجماعي وأهميته في معالجة القضايا العامة)، حتى أصبح اﻻتفاق على أهميته أشبه بما عرف باﻹجماع السكوتي في علم أصول الفقه، والحمد لله على ذلك.. وإلى المقالة القادمة إن شاء الله..
يقول اﻷخ السائل ما خلاصته:
أين الدليل الشرعي على اشتراط هيئة أهل الحل والعقد!؟ فكل ما تذكرونه يعد دليلا عقليا ﻻ يكتفي به كثير من الناس!!!
وفي اﻹجابة عن هذا أقول:
ﻻشك في أن الدليل اﻷساسي لهذه المسألة دليل عقلي، ويستأنس له ببعض اﻷدلة النقلية… إﻻ أن الدليل العقلي في شريعتنا، يعد قسيم الدليل النقلي، وليس مقابلا له كما ظن بعضهم!!
فالدليل الشرعي نوعان: نقلي وعقلي، ويمثل الدليل العقلي كل من دليل اﻹجماع والقياس ودليل المصالح المرسلة وغيرها من اﻷدلة اﻷصلية والتبعية المعروفة في علم أصول الفقه…
وكون دليل مسألة شرعية دليلا عقليا، ﻻ يقلل من أهميتها أبدا، فقد اتفق العلماء على أنه إذا انحصر دليل مسألة شرعية في الدليل العقلي، كان هذا الدليل في قوة الدليل النقلي في الحكم، من حيث وجوب اﻻلتزام به.
ومما يؤيد الدليل العقلي في هذه المسألة، نصوص نقلية خاصة وعامة، من مثل قوله تعالى: (…ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي اﻷمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم..) فحصر العلم في هذه المسائل بأهل اﻻستنباط، وسمى حكمهم فيها علما.
ومن أحب التوسع في هذا فليرجع إلى البحث الذي أشرت إليه، ففيه تفصيل لتلك اﻷدلة. والله الموفق والمسدد..
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، ووحد صفوفهم، ووفق علماءهم وعقلاء إلى القيام بواجبهم تجاه قضايا أمتهم وبلدانهم، حتى ﻻ يدعوا مجاﻻ للخوض فيها لمن هب ودب، كما يحصل في مجتمعاتنا حاليا… وﻻحول وﻻقوة إﻻ بالله العلي العظيم.
***