أمة لا تعرف قدر علمائها، أمة ضائعة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فقد روى الإمام أحمد ، والطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا ،ويعرف لعالمنا حقه ))
وروى أبو داود والترمذي بلفظٍ مقارب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا ..)) قال الترمذي :حديث حسن صحيح .
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزلوا الناس منازلهم )) .
وروى الحافظ الخطيب البغدادي بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن مَثَلَ العلماء في الأرض ، كمثل نجوم السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم، يوشك أن تضل الهداة )).
يفهم من هذه الأحاديث وأمثالها : أن وجود العلماء في الأمة آَمَنَةٌ لها من الضلال، وأنه يجب على المسلمين إنزالهم منازلهم، ومعرفة قدرهم وحقهم على الناس …
فالأمة التي لاتعرف قدر علمائها أمة ضائعة، وأمة معرضة للهلاك والضلال، ولاسيما في أيام النوازل والفتن …
لأن العلماء وحدهم، هم الذين يلجأ إليهم بعد الله عزوجل في الملمات ، لأنهم القادرون على بيان الأحكام الشرعية واستنباطها بما آتاهم الله من علم ، ولأنهم الذين يحسنون عقد الموازنات الشرعية في الأمور الصعبة والخطيرة ، ولأنهم ورثة الأنبياء …
ومن هنا: أوجب الله على الناس الرجوع إليهم ، ورَدّ المائل الدقيقة والخطيرة إليهم ، فقال سبحانه: (( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم …)) الآية 83 \ من سورة النساء .
ومن هنا : وجب على العلماء أن يجتمعوا ، ويوحدوا كلمتهم في القضايا العامة ، حتى لا تفترق الأمة بسبب اختلافهم في اجتهاداتهم ومواقفهم فيها .. ، وحتى لايفسح المجال لمن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأحداث الأسنان ، وسفهاء الأحلام ، والرويبضة في تولي مثل هذه الأمور …
كما وجب على الأمة أن ترجع إلى علمائها، وتلتزم بأحكامهم وقراراتهم ، وتتنازل عن آرائها وأهوائها المخالفة لرأي العلماء …
وإن الأحداث القديمة والحديثة ، والوقائع المتكررة تؤكد أهمية هذا الواجب، وسلامة هذا المنهج، وخطر الابتعاد عنه …
والمراد بالعلماء هنا : العلماء العاملون ، والدعاة الربانيون ، الذين تجتمع القلوب عليهم ، ويشهد الجميع لهم بالفضل والزهد والورع … والأمة بفطرتها ووعيها تستطيع أن تفرز الصفوف، وتميز بين العلماء الربانيين ، وعلماء السوء الذين قد لا تخلو منهم المجتمعات …
وإن المتتبع لواقع الأمة اليوم، يرى خللاً كبيرا في اتباع هذا المنهج، وابتعاداً عنه ، وليس من عامة الناس وجَهَلتهم فحسب ، وإنما من الذين يُعرفون بالصلاح، ومن الذين يرجعون إلى هؤلاء العلماء ويستفتونهم في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، ويدينون الله بفتاواهم، فإذا وَصَلَ الأمر إلى قضية عامة، أو حدث خطير أحاط بالأمة، رجع كثير منهم إلى آرائهم وأهوائهم، مُعْرضينَ عن فتوى علمائهم وقراراتهم !!
بل يسعى بعض هؤلاء إلى مجادلة العلماء، والعمل على إخضاعهم لآرائهم ، وإلا شقوا عَصا الطاعة، وحكموا على العلماء بقلة العلم والفهم ، أو بقلة الوعي والإحساس، أو بالجُبن والخَوَر … وقد وصل الأمر ببعضهم بأن يتهم علماءَه بالخيانة وضعف الدين …!!!
وحتى لايبقى الحكم نظريا مجرداً، عَمِدْتُ إلى إسقاطه عمليا على ما حَدَث في مدينتي حلب الشهباء اليوم .
فإنه قد لايخفى على كثير من الناس تَميز موقف مدينة حلب تجاه الأحداث الخطيرة التي مرت ولا تزال تمر بها بلاد الشام المباركة .
فقد أكرم الله مدينة حلب – كما أكرم غيرها – بعلماء ثقات ، ودعاة ربانيين ، اجتمعت كلمتهم ، وعلى رأسهم : سماحة شيخنا الشيخ الدكتور إبراهيم السلقيني – عافاه الله ، وأمده بمدد من عنده – على تحليل الأحداث، وفهمها، وعلى الموقف الشرعي الواجب تجاهها …
فنصحوا الناس بعدم التظاهر القائم، نظراً لما تترتب عليه من مفاسد عظيمة مقابل تحقيق مصالح متوهمة من ورائها … ونظرا لاستغلالها لأغراض أخرى …
ووعدوا الناس بمتابعتهم أمْر التغيير والإصلاح مع المسؤولين، بأساليبهم ووسائلهم الخاصة بهم، وتَحملِ مسؤولية ذلك أمام الله عزوجل … متخذين بذلك سبيل التبشير لا التنفير، والتيسير لا التعسير ، مسددين ومقاربين – كما جاء في التوجيهات النبوية الشريفة – فأبى كثير من الناس هذا النصح ، ودعوا إلى الخروج عن هذا المنهج، وتوالت الوفود العامة والخاصة على العلماء، طالبين الموافقة على مخالفة هذا المنهج الشرعي القويم ، ومناقشين فيه، راجين من العلماء الرجوع عن منهجهم وموقفهم، واتباع رأي العامة في ذلك، حتى وَصَلَ بعضهم إلى نوعٍ من السخرية والاستهزاء بموقف العلماء، والتهديد لهم إذا لم يستجيبوا لذلك ..!!
ولقد سمعت هذا من عددِ من العلماء الأفاضل ، وحدث مثله معي، بل مع شيخنا الشيخ إبراهيم السلقيني – حفظه الله- أيضاً .
ولولا انضباط كثير من أبناء حلب بمنهج العلماء وتوجيهاتهم، لأصَابَ حلب ما أصاب غيرها من محن ومصائب، ولكن الله سَلم …
ولطالما دعاني الشيخ ابراهيم السلقيني – حفظه الله – لمدارسة بعض الرسائل التي تصل إليه من هنا وهناك، أو يرسل إلي بعضها لأبدي رأيي فيها … والعَجَبُ أن يكون مصدر بعض تلك الرسائل التي لم تلتزم بالأدب العلمي، ممن يُنسبون إلى العلم أو الدعوة إلى الله !! فكنت أخفف عنه ألمه ، وأُشيدُ بصبره وحِلْمه …
ألا فليتق الناسُ اللهَ في علمائهم، وليرجعوا إلى عقلهم ورشدهم ، وليحمدوا الله عزوجل الذي قَيّض لهم علماء عاملين، ودعاة ربانيين، في الوقت الذي تفتقد فيه كثير من البلدان الأخرى أمثالهم في علمهم وتوازنهم وحكمتهم …
وإلا، فإن أمةً لاتعرف قدر علمائها، أمةٌ ضائعة ، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
كتبها : د. محمد أبوالفتح البيانوني .
حلب: 27 \ رمضان \ 1432 هـ .
27 \ 8 \ 2011 م