مِن المؤثرات السلبية في فقه الموازنات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فلا شك في أن فقه الموازنات من أهم أنواع الفقه الذي تحتاج الأمة إليه اليوم ، وذلك لأن معظم النوازل والأحداث المعاصرة ، تعتمد في أحكامها عليه ، وقلما تَجِدُ نازلة من النوازل المعاصرة يظهر حكمها من ظاهر آية قرآنية ، أو حديث نبوي ، أو مصلحة بينة معتبرة ، وإنما تحتاج معظم هذه النوازل ، إلى موازنات دقيقة بين المصالح والمصالح ، أو بين المفاسد والمفاسد ، أو بين المصالح والمفاسد …
ومثل هذه الموازنات قد لا يُوفق فيها إلا العلماء الكبار المتمكنون في العلم ، المتبصرون بالواقع ، والمستشرفون للمآلات ، ولا سيما إذا اجتمعت كلمتهم عليها ، وتكاملت جهودهم فيها .
ومن المعلوم أيضا : أن فقه الموازنات يعتمد على عناصر أساسية ، تتمثل في فهم النصوص الشرعية أولا ، وفهم مقاصد هذه النصوص ثانيا ، وفهم الواقع الذي يراد إسقاط الحكم عليه ثالثا ، وفهم مدى إمكانية أن يحقق الحكم الشرعي مقصده في هذا الواقع أو ذاك رابعا .
فإذا اختل عنصر من هذه العناصر الأربعة ، أو لم يتوفر الحد الأدنى من معرفته والوقوف عليه ، كانت الموازنة خاطئة ، أو ضعيفة ، ومن هنا : تظهر أهمية الاجتهاد الجماعي في هذه الموازنات ، الذي تتكامل فيها الجهود ، وتشارك فيها العقول …
وقد أشار إلى أهمية هذا الاجتهاد الجماعي في أحكام القضايا العامة الكبرى ، القرآن الكريم ، لما بَين المنهج الصحيح للتعامل مع مثل هذه الأحداث ، فقال سبحانه :
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، لاتبعتم الشيطان إلا قليلا )…
فالرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحكمه في هذه القضايا الخطيرة معصوم من الخطأ ، ومُسدد بالوحي ، أما الرد إلى أولي الأمر ، وإلى أولي الاستنباط من العلماء ، فيعصمه اجتماع كلمتهم ، وتعاونهم على عقد هذه الموازنات ، ومن هنا جاء اللفظ القرآني مشيرا إلى الجمع من أولي الأمر بقوله ( أولي ) وقوله ( الذين ) والله أعلم .
فإذا كان صاحب الموازنة ضعيفا في جانب العناصر الأربعة ، كانت موازنته خاطئة ، وكان الحكم الصادر عنه خاطئا في الغالب .
وإذا كان ضعيفا في واحدٍ منها فقط ، أثر هذا الضعف تأثيراً كبيرا في نتيجة موازنته وحكمه .
فلو كان ضعيفا مثلا في فهم النصوص الشرعية ، وقويا في فهم المقاصد ، وفهم الواقع ، اختلت نتيجة موازنته ، وكثيرا ما يقول أمثال هؤلاء: نحن نعمل بروح الشريعة ومقاصدها ، غافلين عن أنه لا قيمة للروح بعيدة عن الجسد !!
ولو كان ضعيفا في فهم الواقع المراد إسقاط الحكم الشرعي عليه ، اختلت موازنته كذلك ، مهما كانت خبرته بالعناصر الثلاثة الأخرى كبيرة ..!! فقد يصبح حكما صحيحا في واقع معين ، ويكون خطأ في واقع آخر .. وهكذا …
وغالبا ما يكون الفقيه والعالم غير بصير بواقعه بصيرة تامة ، نظراً لانشغاله بإتقان العناصر الأخرى ، فيعتمد في هذا الجانب على من حوله من الناس الذين يثق بهم ، فيُصدرُ حكمه بناءً على المعطيات المقدمة إليه ، سواء كانت من جهة رسمية قد لا تصدقه ببيان الواقع لغرض في نفسها ، أومن جهة شعبية متأثرة ببعض الضغوط النفسية والحسية المحيطة بها فَتُلبسُ عليه الأمر ، وتُفهمه الواقع على غيروجهه الصحيح ، متأثرة بقناعاتها وخلفياتها ، وأمزجتها ، وأغراضها … فتصدر هذه الموازنات والأحكام بناءً على تلك المعطيات ، ويفاجأ الجميع بنتائج غيرَ متوقعه ، تجعلهم يعضون أصابع الندم عليها ، ولات ساعة مندم ….
وكثيرا ماصدرت فتاوى وأحكام ، عن أعلام مشهورين بعلمهم وفضلهم ، يتعجب الناس منها ،وتصيبهم الويلات بسببها ..!!
فكم من أفتى مثلا بجواز ربا البنوك التجارية بناءً على هذه المؤثرات ، فصُورَ له واقعها على غير حقيقته ، فجرت فتواه على الأمة الويلات ، وتجرأ كثير من المسلمين بسببها على أكل الربا والتعامل به ..!!
وغفل كثير من الناس عن مثل هذه المؤثرات ، فطعنوا في العلماء والمفتين ، وسلقوهم بألسنةٍ حِداد واتهموهم بالخيانة وقلة الدين ..!! ظانين فيهم ظن السوء ، وحكموا عليهم بأنهم باعوا دينهم بدنياهم ..!!
وكثيرا ما حدث مثل هذا في الفتاوى المتعلقة بالجهاد ، والخروج على الحكام الكافرين أو الظالمين ، حيث يتصدى بمثل هذه الفتاوى الخطيرة ، طلاب علم لم يكتمل عندهم الفقه في العناصر الأربعة السابقة ، مكتفين بنقل نصوص شرعية عامة ، أو أقوال فقهية قيلت في وقتها ، وعالجت في زمنها واقعا معينا ، فيعممها هؤلاء على كل واقع ، ويسقطونها على كل حدث ..!!
أو يتصدى لها بعض أهل العلم والفضل المشهود لهم بالعلم والتقوى ، بناءً على معطيات قدمت إليهم ، وهم في غفلة عما وراءها من أهداف ، وخلفيات نفسية أو مادية … فتقع الواقعة ، وتعاني الأمة من وراء مثل هذه الفتاوى الويلات والنكبات ..!!
ويغفل كثير من الناس عن أمثال هذه المؤثرات في فتاوى العلماء وموازناتهم ، فيتهمون العلماء في دينهم ، وتلوكهم ألسنة السفهاء والجهال …
فيزداد الطين بِلة ، وتنقلب الأمور إلى فتنة عمياء تدع الحليم حيران … وهذا واقع مشهود لا يحتاج إثباته إلى دليل أو برهان …
من هنا أحببت أن أذكر نفسي وإخواني من أهل العلم وطلبته ، بخطر هذه المؤثرات في فقه الموازنات ، ليكون الجميع على بصيرة من أمرهم ، فيراجعوا فتاواهم ، ويسددوا مواقفهم قبل فوات الأوان …
كما أحب أن أذكر عامة الناس بأن يتقوا الله في علمائهم ، وأن ينزهوا ألسنتهم عن الخوض فيهم ، وأن يلتمسوا لهم عذرا باحتمال وقوعهم تحت بعض هذه المؤثرات التي أشرت إليها ، فإن الله يغار على عباده الصالحين عامة ، وعلى العلماء خاصة .
يقول تعال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، يصلح لكم أعمالكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) ..
والحمد لله رب العالمين .
1\10\1433 هـ … 19\8\2012 م .
ملاحظة : ( كتبت هذه الكلمات صبيحة يوم عيد الفطر المبارك ، بناءً على إشارة من فضيلة الوالد الشيخ أحمد عزالدين – رحمه الله تعالى – في رؤيا رأيته فيها ليلة العيد . أرجو أن تقر عينه بها ) .