لمن يستدل بكلام عبد الرحمن الكواكبي في حِراكاتهم
يقول أحد الأحبة:
يستدل بعض المؤيدين والمشجعين للثورات العربية القائمة بكلام عبدالرحمن الكواكبي – رحمه الله – في كتابه (طبائع الاستبداد) حيث يقول: (فناءُ دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم، بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار، لأن دولة الاستبداد في مرحلتها الأخيرة تضرب ضرب عشواء كثور هائج، أو مثل فيل في مصنع فخار، وتحطم نفسها وبلدها وأهلها قبل أن تستسلم للزوال… وكأنما يستحق على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم، وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأملهم في معنى الآية الكريمة: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب))
يقول السائل ما تعليقكم على هذه المقولة:
وفي الإجابة عن هذا أقول أولا:
كلام الكواكبي – رحمه الله – جميل وسديد، يشير فيه إلى سنة اجتماعية كونية ثابتة، إلا أنها استخدمها أمثال هؤلاء استخداما خاطئا، وقد سبق لي أن علقت على أحد الإخوة المعجبين بها، فقلت في تعليقي عليها:
(كلام صحيح، ولذلك وجب على العقلاء إحسان التعامل معها، وألا يكونوا متسببين في تهييجها وإثارتها، والعمل على التغيير فيها بحكمة وبصيرة، وهذه إحدى فوائد العلم بالسنن التي أشار إليها المصلحون، وليس باستشراف تلك النتائج بالعواطف والآمال، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)
وهذا أمر فطريٌ معتاد بين الناس في التعامل مع مثل هذه السنن الكونية، فقد عرف الناس مثلا: طبيعة الجمل وشدة تحركاته وتخبطاته عند ذبحه، فلم يستسلموا لتلك السنة الفطرية، وإنما أعدوا إعدادا صحيحا ملائما لاستيعابها ودرء سلبياتها، فتحققت مطالبهم ورغباتهم من دون الوقوع في الآثار السلبية، ولم يتواكل الذابحون له على ما قدره الله وخلقه فيه من طبع وهكذا…
وأترك النقطة الثانية في التعليق على هذه المقولة إلى الأسبوع القادم إن شاء الله.
أشار الكواكبي – رحمه الله – إلى استحقاق الناس العقاب من الله عز وجل على سكوتهم ورضائهم بالظلم والاستبداد، مستدلا بقوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
وهو كلام سديد أيضا، فقد ورد في مثل هذا الوعيد الشديد، ولكن شتان ما بين السكوت والرضى عن الظلم والاستبداد المشار إليه، وما بين إنكاره ومعالجته بالحكمة المأمور بها، والتخطيط لذلك بما يحقق الإيجابيات ويدفع السلبيات، وهذا الذي يقوم به العلماء والمصلحون في كل زمان ومكان، ويدعون إليه، ويشددون النكير على غيره، بناء على فقه المآلات وفقه الموازنات، ودرء المفاسد وجلب المصالح، – كما فصلته في مقالات سابقة – فمن قام بهذا ينجو بإذن الله من عقاب الله، كما قرره القرآن الكريم في قصة أصحاب السبت (أهل القرية الظالمة) فقال في سورة الأعراف: (162-165) والتي جاء فيها: (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ).
والذين ظلموا هنا صنفان من أهل القرية الظالمة، هما: الفاعلون للمنكر والظلم والقائمون عليه، والساكتون عنه الراضون به، فكانت نتيجتهم سواء.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا في هذه المحن والفتن من الآخذين بأسباب النجاة، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ملتزمين بالمنهج القرآني والنبوي، وألا يجعلنا من الظالمين، أو الراضين عن الظلم والساكتين عنه، وألا يآخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه سميع مجيب.
وإلى النقطة الثالثة في التعليق على هذه المقولة في المقالة التالية إن شاء الله.
يحتج بعض الإخوة المشجعين على الثورات العربية القائمة بقولهم: إن الثورة قامت بإرادة الله، ولا بد لنا من الاستسلام لإرادته والتعامل معها ودعمها!!
غافلين عن أن هذه المقولة تشبه مقولة الجَبْريين والقَدَرِيين الذين يحتجون على تبرير مايقع منهم من أخطاء بإرادة الله ومشيئته، لأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن..!!
وقولهم هذا: يشبه قول المشركين في زمن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، الذي ذكره القرآن الكريم في سورة الزخرف رقم(20): (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ۗ مَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) لأنهم يخلطون بين إرادة الله ومشيئته وبين قدر الله وقضائه..!!
فالله عز وجل الخالق يقدر ويقضي بعلمه ما يشاء من خير أو شر، ولكنه لا يحب ولا يريد لعباده الشر، فلا يجوز أبدا تبرير الأخطاء البشرية، والمخالفات الشرعية التي يقع فيها الناس بالإرادة الربانية والمشيئة الإلهية، فهو القائل سبحانه: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ..) فإذا وقع قضاء الله وقدره دون تسبب منا، نقول راضين مطمئنين: (قدّر الله وما شاء فعل)، ولا يعفينا هذا القول من محاسبة أنفسنا في التسبب بوقوع الشر، ومن استغفارنا وتوبتنا إليه سبحانه، فحذار حذار من الخلط بين الأمرين.
نسال الله عز وجل أن يلطف بنا فيما قضى وقدر، وأن يجنبنا الزلل في أقوالنا وأعمالنا، وأن يقينا وساوس الشيطان التي يدخل بها على عباده، إنه غفور رحيم.