رمضان دورة تربوية مكثفة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..
أخي المسلم، أختي المسلمة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تحدثت في الرسالة الثامنة من لرسائل الهدى، (عن ساعات الرقي الروحي ، والسمو الإيماني) ومدى احتياج المسلم إليها ، وضرورة حرصه عليها…
وهانحن اليوم نستقبل ساعات كريمة من تلك الساعات ، بل شهراُ كاملاُ، وموسماُ عظيماُ من مواسم الرقي الإيماني والسمو الروحي… حيث أكرمنا الله عز وجل بدخول دورة جديدة من دورات رمضان المبارك، فمد في عمرنا حتى بلغنا إياه، وفي وقت حبست فيه كثيراُ من الناس آجالهم، فوافتهم المنية قبل أن وافيهم رمضان كما أسبغ علينا ثوب الصحة والعافية، فتمكنا من صيامه وقيامه.. في وقت أقعد المرض فيه كثراُ من الناس عن هذا الخير ..
ولا ندري أيكتب لنا مثل هذا مرة أخرى، أم سيفاجئنا الأجل أو يثقلنا المرض، فيقطعنا عن مثل هذه الخيرات ، ويبعدنا عن المشاركة في مثل هذه المناسبات والدورات!!!! فتعالوا أيها الأحباب: نغنم فيه ساعاته، ونتعرض لنفحاته، فنكسب منه أكثر مما كسبناه في سنواتنا الماضية، ونعوض فيه ما فقدناه من آثاره وبركاته…
فإن كثيراُ منا يفرح بهذا الموسم، فتعلوا همته أياماُ وليالي محدودة، ولكن سرعان ما تعود إليه الغفلة فتنسيه كثيراُ مما ذكر، أو يغلبه شيطانه الذي قيد وحجز عنه في رمضان، فيعوض في معركته معه كثيراُ مما فوت عليه في ذلك الشهر الكريم.. من هنا اقتضت حكمة الله عز وجل أن يجعل هذه الدورات الربانية متكررة متنوعة على مدى السنين والأعمار، فمن صلاة، وصيام، وزكاة، وحج…، إلى فروض عديدة ونوافل متنوعة، يستطيع المؤمن من خلالها التنقل من دورة إلى دورة ، بل أن يجمع في وقت واحد خير دورات، فيتقلب من خير إلى خير، ويستزيد فضلاُ على فضل … فما أجمل أن يجمع المؤمن في رمضان بين فضل الصلاة والزكاة والصيام والذكر …! وما أسعد من يجمع في حجته بين الفضائل كلها، فيكثف لنفسه الدروس التربوية النافعة، فيكون التاجر الرابح ، والمستفيد الدائم …!
أيها الأخوة الكرام : إنه بإمكان كل منا أن يقف على كثافة الدورة التربوية في شهر رمضان، وعظم نفعها، إذا ما وقف مع وقفه تفكر وتأمل، ولم يعامله أو ينظر إليه على أنه موسم صيام فحسب، ومكابدة جوع وعطش.. فهو شهر مجاهدة للهوى والنفس في أعلى صورها وأسمى أشكالها، حيث يتناول أساساُ شهوة البطن والفرج، ويعالجها في نفس المؤمن، ويضع لها برنامجاُ خارجاُ عن مألوفة وعاداته، فيجعله يكابد من خلاله صعوبات فطرية وغريزية، ويقاوم ضغوط العادة والإلف في ممارسة تلك الأعمال، والاستجابة لهذه المتطلبات… ويبقى على هذا شهراُ كاملاُ يجعله بإذن الله سيد نفسه ، ويحرره من أسر العادة والغريزة والشهوة… وإلى هذا يشير الحديث الشريف: (” كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل: ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي )) رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله علية وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب، منفعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منفعته النوم بالليل فشفعني فيه قال : فيشفعان). وشهر رمضان شهر تعبد وتبتل، وشهر تلاوة للقرآن الكريم ومدارسته ومراجعته، وحيث نزل فيه القرآن، وكان جبريل يلقى في كل ليلة من لياليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدارسه القرآن… وهو شهر الإنفاق والبذل والجود فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل …
كما جاء في الحديث المتفق عليه . كما أن شهر رمضان شهر اعتكاف في بيوت الله وفرار إليه، وانقطاع اختياري عن الأعمال العادية ، والخلطة الغافلة… فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده). كما جاء في صحيح البخاري عنها أيضا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماُ) وهو شهر ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر…
وهكذا تتنوع الدروس الرمضانية وتكثر فرص الاستفادة من شهر رمضان، ويتنقل المؤمن فيه من واحة إلى واحة ، ويتقلب في رحاب التقوى، والشكر، والصبر.. ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء العشر الأواخر من رمضان، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر… كما جاء في الحديث المتفق عليه.
وكان السلف الصالح – رحمهم الله – يرون فيه موسماُ خاصاُ من مواسم الخير، يتطلعون إليه ويتشوقون له، ويبكون عليه.. فالمحروم من حرم خير هذا الشهر المبارك والخاسر المغبون من مرت عليه أمثال هذه الدورات وهو غافل عنها، غير مكترث بها. روي ابن خزيمة في صحيحه عن سلمان صلى الله عليه وسلم قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال : يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاُ، ومن تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطر فيه صائماُ كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شي، قالوا يا رسول الله: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماُ على تمرة، أو على شربة ماء، أو مذاقه لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بها ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنها، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنها : فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار، ومن سقى صائماُ سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة) انظر الترغيب والترهيب للمنذري، ج2 ص /94-95/.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين من عباده الصالحين ، والموافقين للخيرات، والمسارعين في سبيل المبرات، والشاكرين لفضله، المقدرين لنعمائه..
والحمد الله رب العالمين..