حَقائقُ لابدّ من أن تُكْشف، وكلماتٌ لابدّ من أن تُقَال
للإجابة عن تساؤلات، ودَحْضِ شبهاتٍ، وتَبْيين حَقائقَ مُغَيّبةً من مُجْريات الأَحْداث القائمة في سورية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة :
فإنه لا يزال بعض الأخوة المخالفين لنا في موقفنا من المحنة القائمة، والفتنة العمياء التي قامت و لاتزال في بلادنا الحبيبة (سورية)، يعجبون من موقفنا، ويقولون لنا: لم لا تتكلمون، ولم لا يتكلم العلماء على النظام في سورية، وعلى ما فيه من فساد وظلم..!!! وتكتفون بالكلام على المعارضين للنظام، والخارجين عليه فقط…!!!؟؟ فقد أصبحتم في نظر كثير من الناس، مُصْطفّين مع النظام، ضد الثورة، وكأنكم راضون عن النظام، وعن أفعاله، أو مداهنون له…!!!؟؟
ألم تروا اليوم الهجرة التي انتشرت في أهلينا، والتي سببها النظام بأفعاله وتدميره البيوت على أصحابها!!! فهل يجوز سكوتكم عما جرى ويجري….!!؟؟؟
ونظرا لعدم اكتفاء كثير من المتسائلين بإجاباتنا عن تساؤلاتهم سابقا، وفي أكثر من مناسبة… ونظرا لتكرار سؤالهم واستغرابهم من موقفنا… سأتحدث عن هذه التساؤلات في هذه المقالة، بتفصيل ووضوح، لم يَسْبق لي أن تحدثت به سابقا، لعلي أحسم به هذه القضية، وأنهي الجدل والتساؤلات حولها بإذن الله، فأقول مستعينا بالله، ومتوكلا عليه:
أولا: ليس من مهمتنا نحن العلماءَ والدعاةَ أصلا – كقيادات طبيعية لهذه الأمة – الكلامُ على النظام، أو على المعارضة للنظام …وإنما مهمتنا في الأصل : الكلام مع الطرفين بدافع الإصلاح، وليس الكلام عليهما..!!!
ثانيا: لقد تكلمت، وتكلم العلماء مع الطرفين قبيل الأزمة القائمة، ولاسيما بعد أن علمنا أن الطرف المعارض للنظام، يريد أن يقوم بالخروج عليه، والعمل على تغييره وإسقاطه… مفتونا بما جرى في تونس وغيرها في تلك الأيام…
ثالثا: بادرنا بادئ ذي بدء، إلى الحديث مع النظام، وعلى أعلى مستويات المسؤولية فيه، وتحدثنا معهم عن واقع بلادنا، وما يجري فيها من فساد وظلم… وطالبنا بكثير من الإصلاحات في مختلف الميادين، وعلى جميع المستويات… ولم نترك صغيرة ولا كبيرة مما كنا نراه ونسمع به في واقعنا، إلا وتحدثنا عنه بكل صراحة مع المسؤولين، على أعلى المستويات… مُقَدِّمين اقتراحاتنا وطلباتنا الكثيرة كتابة ومشافهة، أملاً بتلافي ما يمكن أن يحدث في بلادنا، مما قد حدث في غيرها.. وابتغاء تحقيق ما يمكن من إصلاح منشود، لواقع مُتّفقٍ على تشخيصه، ومُعْترف بما فيه من ظلم وفساد… فلمسنا التَفَهُّم لملاحظاتنا، والموافقة على كثير من طلباتنا، والمبادرة السريعة إلى تحقيق بعض تلك المتطلبات… وطالَبَنا المسؤولون بالتعاون الصادق معهم في سبيل تحقيق ما طالبنا به… وعُدْنا متفائلين بالخير، مبشرين بالوعود الطيبة، ووعدنا الناس بمتابعة هذه اللقاءات والمساعي الحميدة…
رابعا: ثم نقلنا هذه النتيجة التي وصلنا إليها إلى الطرف الآخر المعارض، العازم على الحراك الشعبي لتغيير النظام وإسقاطه، وطالبناه بالهدوء، ووعدناه مؤكدين عزمنا على متابعة تحركنا في سبيل الإصلاح، وتحمل مسؤولية هذه المتابعة على جميع المستويات، بالقدر المستطاع الذي لا يكلف الله الناس بأكثر منه… فقابَلَنا هذا الطرف بالرفض لهذه الخطوات، معبرا عن يأسه من الإصلاح، ومكذبا لتلك الوعود…!!! وأكد لنا عزمه على حراكه المزمع عليه… وتم تحذيرُنا من تَبِعات مثل هذا الحراك الطائش، الذي لا يحقق إصلاحا، وإنما يزيد الفساد فسادا، والظلم ظلما… كما حدث أيام محنة الثمانينات التي عاصرناها، وعايشنا أحداثها وآثارها الوخيمة على البلاد والعباد… كما حَذّرنا من استغلال هذا الحراك الشعبي المتحمس من قبل أهل السوء الذين لا يريدون الإصلاح، والذين لا يخلو وجودهم في الطرفين داخل البلاد غالبا…
كما حَذّرنا من استغلال عدو البلاد الخارجي لمثل هذا الحراك، تحقيقا لمآربه فيها، التي يجب أن لا تَخْفى على عاقل….
خامسا: لكن، أُجْهضت تلك الجهود التي بذلت في سبيل الإصلاح والتهدئة… وبدأ الناس حِراكَهم المُزْمع عليه، وانتشرت الفوضى المُخَرّبة التي أَطلق عليها الأعداء عند تسويقهم لها في بلاد العرب والمسلمين اسم (الفَوْضى الخَلّاقة ) التي جَلَبت القتل والدمار، وأهلكت الحرث والنسل… وزادت الفساد فسادا، والظلم ظلما -كما كان متوقعا في عالم الأسباب- .
سادسا: استمرت بعد ذلك الاتصالاتُ بالطرف المعارض، وتابعنا الحديث مع بعض قيادات ذلك الحراك الطائش، أملا بأن يعود إلى رشده، بعد أن رأى أصحابُه، والناسُ جميعا النتائجَ المترتبة عليه، التي حَذَّرنا منها سابقا… أملاً بتحقيق صُلْح وتَفاهم بين الطرفين لتدارك ما يمكن تداركه في ذلك الوقت… حيث كانت صلتنا لاتزال وثيقة بالمسؤولين… فلم نَلْق منهم إلا الرفض لطلبنا، والتصميم على متابعة حراكهم، الذي وعدهم العدو الظاهر والخفيّ بدعمه، وتحقيق أحلامهم من خلاله بإسقاط النظام وتغييره خلال أيام، أو أسابيع، أو أشهر على الأكثر… فأحسنوا الظن بأعدائهم، في الوقت الذي أساء كثير منهم الظن بعلمائهم وعقلائهم، فَعَدّوهم متواطئين مع النظام، مُداهنين له، أو جُبناء خائفين منه، أو بُسطاء لم يَفْهموا الأمور على حقيقتها …!!!
سابعا: ومما زاد الطينَ بِلّةً، والمشكلة تعقيداً، موقفُ بعض علماء الداخل، وكثير من العلماء والدعاة السوريين المقيمين خارجَ البلاد، والذين لا يعرفون واقع بلادهم على حقيقته، لبعدهم عنها… فكانوا لا ترى أعينُهم إلا السلبيات القائمة في وطنهم، متجاهلين ومتغافلين عن الإيجابيات التي كان يعيشها الناس في الداخل، وما كان يَنْعُم به كثير منهم من أَمْن في واطمئنان، …مُسْتصحبين في نفوسهم المشحونة ما جرى في البلاد أيام الثمانينات، وما أعقب أحداثها من آلام… فأثاروا العالم جميعا على بلادنا، وأَلّبوا عليها أعداءها… فتتابعت فتاوى كثير من علماء الأمة ودعاتها – سوريين و غير سوريين – مُعْلنة الجهادَ في بلاد الشام الطيبة، وداعين إلى الاستشهاد في أراضيها… مصورين للناس التخريبَ والتدميرَ فيها جهادا… والقَتلَ في سبيله استشهادا.!!! فثارت عواطف البسطاء الصالحين من شباب الأمة، وتَجَلَّت أحقاد الحاقدين عليها، فاستغلوا الموقفَ… وتَداعت الأممُ إلى قَصْعتها، ورأوا الفرصة سانحة للانقضاض عليها…. ولما فشلت المعارضة في تحقيق هدف إسقاط النظام السياسي القائم، عمد كثير منهم إلى تحويل معركتهم مع النظام، من معركة سياسية فاشلة، إلى معركة أكبر منها، وأشد خطرا على الأمة جميعا، فصوروها معركة طائفية بين أبناء الوطن الواحد، بل بين عموم أبناءالأمة المسلمة جمعاء… فاستغل ذلك التوجه المقيت، الأشرار من جميع الأطراف، وأثاروا الفتنة الطائفية النائمة، ونبشوا أحقادا دفينة بين الطوائف، ليعبئوا النفوس المسلمة، ويجعلوا معركة الأمة بين أفرادها، لتشغل بها عن معركتها الحقيقية مع أعدائها، فأخذ يقتل بعضهم بعضا، محققين بذلك هدف أعدائهم البعيد أولا، وواقعين فيما حذر منه صلى الله عليه وسلم صراحة ثانيا – كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة، عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – الذي سبق لي أن عرضته في مقالة مستقلة من مقالاتي …ولولا وعد الله الصادق بحفظ بلاد الشام المباركة، وتَثْبيت أهلها، ووعي كثير من أبنائها وعقلائها… وتعاون بعض حلفائها معها، من الشعوب والدول… -مسلمين وغير مسلمين- لمَا بقي في البلاد بَشَر ولا حَجَر، ولأصبحت أثراً بعد عَيْن… وما يَعْلم جنودَ ربك إلا هو…
ثامنا: وبعد ثلاث سنوات مَرّت على هذه الفتنة والمحنة… قمنا بدعوة جميع الأطراف، ومِنْ كلا الطرفين المختلفين في الموقف منها، إلى مراجعةٍ ضرورية واجبة لما سبق، ولما هو قائم… من قِبَل مجموعة عالمة عاقلة مُتجرّدة من الطرفين، ممن استشعروا ما آلت إليه الأمور في بلادنا، إلى عَقْد موازنة جديدة واجبة بين مفاسد الاستمرار في هذه الحالة البائسة، وبين مفاسد التوقف فيها، ليدفعوا المفسدة الكبرى بالصغرى -كما هو واجب شرعا عند اجتماع المفاسد، وتَعطّل المصالح -ويتخذوا قرارا حاسما في هذه القضية، يلتزم به جميع مريدي الخير لهذه الأمة، يوقفون به سفك الدماء، وتدمير البلاد، وانتشار الفساد والإفساد.. ويقطعون الطريق بذلك على مريدي الشر للعباد والبلاد، مهما اختلفت أسماؤهم، وتنوعت راياتهم….
فلم تَلْق الدعوة إلى هذه الخطوة المهمة استجابة، حتى من الذين اعترفوا بخطأ ما حصل!!! مُكْتفين بقناعتهم السابقة، وقرارهم السابق الذي ظهر خطؤه، وعاينَ الناسُ أثرَه، وذاقوا وبالَ أَمْره…!!! مما دفع كثيرين من الذين خاضوا غمار هذه الفتنة، إلى التطلع إلى المُصَالحات الفردية، والتراجع الاضطراري الذي لا يَحِل المشكلة العامة، وإنما قد يحافظ على أرواحهم، ويبرئهم من جَريرة الاستمرار في الخطأ الذي وقعوا فيه، ويُنْجيهم من الوَرْطة التي وَرّطهم فيها غيرهم…
تاسعا: إن كل ما سبق بيانه من مُعطيات، وتَتابُعه من أحداث… جعل المحنة تطول، والفتنة تشتد، والمشكلة تتعقّد… حتى أفرزت مُخْرجاتٍ خطيرةً عجيبةً ما كانت تخطر على بال أحد، من قتل ودمار وهجرات عشوائية بائسة… جعلت الحليم حيران، وشملت آثارُها ونتائجها الوخيمة جميعَ الأطراف في داخل البلاد وخارجها، وامتد شَرُّها في الآفاق القريبة والبعيدة، وجعلت العالم يتخبط في أسلوب علاجها، ويَفْشل في درء مفاسدها… ويَقَع وعيدُ الله عز وجل القائل: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)، ويَصْدق قوله سبحانه فينا: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).
عاشرا وأخيرا: أرجو أن أكون ببيان ما سبق، والذي وقفتُ عليه شخصيا، وعايَشْته مع ثُلّة كريمة من أهل العلم والفضل في بلدي… قد وَضّحتُ للإخوة المتسائلين الإجابةَ عن تساؤلهم، وأَعْذرتُ إلى الله سبحانه وتعالى أولا، وإلى الناس ثانيا بما بَيّنتهُ من حقائق، وأشرتُ إليه من وقائعَ قد يَجْهلها كثير من الناس، ويَتَعمد إغفالها بعضهم تبريرا لموقفهم، آملا إن لم يستفد الناس منها اليوم، أن تكون درساً مفيداً، وعبرةً بليغةً لمن يعتبر من بعدهم… سواء من الذين تابعوا صفحتي على الفيسبوك، التي تحدثت فيها طويلا، عن ( فقه المحنة، وفقه ما بعدها )، أو الذين لم تَتَيسر لهم مُتابعتُها، أو الاطّلاع عليها…
سائلا الله عز وجل: أن يجعل العاقبةَ خيرا، وأن يحفظنا ويحفظ بلادنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن… وأن يعفو عن تقصيرنا وخطئنا، وأن يتقبل مِنّا صالح أعمالنا، وأن يُصْلح لنا فاسدها، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا…. إنه هو الغفور الرحيم، والعفو اللطيف بعباده…
والحمد لله رب العالمين..
كتبها:
أ. د. محمد أبو الفتح البيانوني
١٨ من ذي القعدة ١٤٣٦ هـ.
الموافق ٢٠١٥/٩/١ م.