الاهتمام بدراسة الملة والشريعة والمنهج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)/9/الإسراء.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي أرسله الله عزوجل لعباده: شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا.
ورضي الله عن آل بيته الطيبين الطاهرين، وعن صحابته الأكرمين أجمعين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعــد: أيهـا الســـادة:
فإن الله عزوجل تعبَّد عبادهُ بملّةٍ، وشريعة، ومنهج، فقال سبحانه: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملةَ إبراهيمَ حنيفاً، وما كان من المشركين)/123/النحل، وقال: (ومَنْ يَرغبُ عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)/130/البقرة.
وقال أيضاً: (لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا)/48/المائدة.
وإذا كانت المِلَّة تعني لغةً: الشريعةَ والدين، فإنها تعني في الاصطلاح (أصلَ الدين) أو (جانب العقائد فيه) ومن هنا: قيل: (ملَّةُ الأنبياء واحدة) و (ملةُ الكفر واحدة).
وإذا كانت الشريعة تعني لغة: الدين أيضاً، فإنها تعني في الاصطلاح (مجموعة الأحكام الشرعية الصادرة عن الشارع)، تُطلق ويراد بها: (الأحكام العملية) بمقابل (الأحكام العقدية)…
وإذا كان المنهج يعني في اللغة: الطريق الواضح، فإنه يعني في الاصطلاح (النظام والخطة المرسومة للشيء).
ومن الطبيعي أن تكون المناهج والشرائع متعددةً، لأنها أحكام وأوامر ونواهي، وخططٌ ونظمٌ وطُرُقٌ من جهة، ولتعلقها بجانب العباد الذين تختلف أحوالهم وأوضاعهم زماناً ومكاناً من جهة أخرى.
خلافاً للملّة الواحدة التي لا تقبل التعدد، وذلك لتعلقها بجانب الله عزوجل الواحد الأحد.
وإذا أصبحت دراسةُ الملة اليوم من اختصاص أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية، ودراسة الشريعة من اختصاص أقسام الكتاب والسنة، وأقسام الفقه والأصول، فإن دراسة المنهج صارت من اختصاص أقسام الدعوة وكلياتها…
إلا أن أي فصلٍ كامل بين هذه الدراسات، أو العناية بواحدة منها على حساب الأخرى، يُعدُّ فصلاً بين أجزاء مترابطة متكاملة، لا يصح الدين ولا يكمل ولا يَسلم إلا باجتماعها.
فالداعية إلى الله عزوجل يدعو إلى كل من الملة والشريعة والمنهج. والدارس للملة والشريعة، لا بد له من معرفة المنهج والطريق الصحيح لذلك، فكل اختصاص من هذه الاختصاصات مفتقر إلى غيره.
فإن مَثَلَ الملة والشريعة والمنهج، مَثَلُ الماء الصافي الذي ينبع من مكان معين، ثم يمشي في جداول وسواقي يروي الأرض، وينبت الزرع، ويستقي منه الناس…
فأصل النبع ومكانه يمثل (الملة الواحدة الثابتة)، والماء المتدفق الجاري الذي يروي الأرض وينبت الزرع، ويستقي منه الناس يمثل (الشريعة الكاملة المستمرة)، والجداول والسواقي المنتشرة هنا وهناك، التي يجري الماء في إطارها، ويتمكن الناس بسببها من الاستفادة من الماء على وجه كامل صحيح، تمثل المنهج الواضح…
وإن أي ضعفٍ أو ضمور في النبع ومصدر الماء، يؤثر تأثيراً كبيراً في كمية الماء الذي يصدر عنه، فيضعفُ سَيْره في الجداول والسواقي، وتقل فائدته، وقد تصابُ مناطق كثير بسبب ذلك بالجفاف والجَدْب…
كما أن أي رافدٍ غريب قَدْ يرفُد هذا النبع، يُعكّر من صفو الماء، ويخرجه عن طبيعته الأولى، وإن أي خَلَلٍ في الجداول والسواقي التي تشكل طريق هذا الماء، قد يُبَعثر من انتشاره، ويُقلل من الاستفادة منه، كما قد يضر انتشاره حيث لا يراد انتشاره فيه، أو يتأخر وصوله إلى المكان الذي ينتظره بسبب ذلك الخلل…
فإنه بقدر حرصنا ومحافظتنا على سلامة المنبع ونقائه، وسلامة الجداول والسواقي وكثرتها، يمكننا أن نحافظ على صفاء الماء وقوة تدفّقه، وعظم آثاره وفوائده…
وبقدر إهمالنا لذلك المنبع، أو غفلتنا عن تلك الجداول، نُعاني من تكدّر الماء، وتغير طبيعته، وقلة تدفقه وضعف أثره…
أيهــا الســـادة:
قَصَدتُ من وراء هذه المقدمة أن أشير إلى ظاهرة خطيرة في تاريخ دراساتنا الإسلامية عامة، والقرآنية خاصة، وهي: عَدَمُ التوازن في اهتماماتنا العلمية بدراسة الملة والشريعة والمنهج.
حيث نرى توسعأً واضحاً في الدراسات المتعلقة بالعقيدة والشريعة، وندرةً شديدة في جانب الدراسات المتعلقة بالمنهج.!!
مما أفرز لنا مخرجاتٍ جامعية عديدة تختص بالعقيدة أو الشريعة، في الوقت الذي نعاني فيه من قلة المخرجات المتخصصة بالمناهج..!!
مع اعتقادي أن أزمة الأمة الإسلامية اليوم أزمة تربوية منهجية، أكثر منها أزمة علمية مَعْرفية…
فقد تجد المتخصص تخصصاً دقيقاً في جانب العقيدة، ويحمل أعلى الشهادات فيها، لكنه لا يُحسن المنهج الذي يقدم فيه ومن خلاله هذه العقيدة، فيقدمها ناقصة مشوبةً أحياناً، أو يقدمها كاملة سليمةً، ولكن في أسلوب ضعيفٍ أو مُنفّر!!
كما قد تجد المتخصص تخصصاًَ دقيقاً في جانب الشريعة، ويحمل أعلى الشهادات فيها، لكنه يفتقد الأسلوب الصحيح والمنهج الحكيم في عرضها، أو في الدعوة إلى تطبيقها!!
وهذه ظاهرة منتشرة في كثير من بقاعنا الإسلامية، لا تخفى آثارها على المهتمين بالدعوة إلى الله، والتي بدأ يشكو منها بعض المتخصصين أنفسهم.
ومن العجب مع هذا كله: أن ترى غَفلةً كبيرة عن أثر هذه الظاهرة الخطيرة، وعن ضرورة العناية بعلم المنهج (علم الدعوة) لدى كثير من أهل العلم!!
بل إن بعض مَن حاورتُه في هذا، يرى أنه لا وجود لعلمٍ اسمه (علم الدعوة) في قائمة العلوم الشرعية والإسلامية!! حتى بالغ بعضهم واعتبره عِلماً مُبتَدعَاً لا يُرَحَّبُ به، ويمكن الاستغناء عنه!!
وقد بذلتُ جهداً واسعاً في نشر هذا العلم، وبيانِ أهميته في عدد من الجامعات الإسلامية التي عملتُ فيها، والتي كنت عضواً في مجلس أمنائها، أو في لجنة وضع المناهج لها…
وذلك بعد أن اجتهدتُ في تأصيل هذا العلم، وبيان أهميته، وصلته بالعلوم الأخرى، يومَ كنتُ أدرسُ في المعهد العالي للدعوة الإسلامية في المدينة المنورة، وضَمَّنتهُ كتابي (المدخل إلى علم الدعوة) الذي يدّرس في كثير من جامعاتنا الإسلامية اليوم والحمد لله.
مـن هنـا:
أحببتُ أيها السادة: أن أجدَ فرصة في هذا المؤتمر القرآني المبارك، لألفتَ الأنظار إلى خطر هذه الظاهرة، وأدعو السادة الأفاضل إلى معالجة هذه الظاهرة، وسدِّ هذه الثغرة.
واسمحوا لي أن أعرض بين أيديكم مَثَلين عَمَليّين، وأثرين واضحين لانتشار هذه الظاهرة وخطرها على العمل الإسلامي والأمة الإسلامية…
المَثَـل الأول:
تعرفتُ في جولاتي الدعوية عامة، وفي إفريقية خاصة على مجموعاتٍ دعوية، ودعاةٍ أفاضل من أبناء تلك البلاد، يحملون شهادات علمية جامعية من مختلف الجامعات الإسلامية، صُدموا يوم تخرجوا في جامعاتهم بواقع الدعوة في بلادهم، فرأوا في كثير من الناس صَداً وإعراضاً، فلم تمكّنهم علومهم الشرعية مع تنوعها من معالجة واقعهم، مما كاد يوقع كثيراً منهم في اليأس من عملية الإصلاح، ويصرف بعضهم إلى أعمالٍ تجارية أو زراعية تنسيهم علومهم، وتبعدهم عن وظيفتهم الدعوية… أو يُسببُ أسلوب كثير منهم نفرةً في النفوس، وتفرقاً في الصفوف.!!
ومن خلال جَلَسات حوار محدودة، وفي أيام قليلة، راجعتُ معهم المنهج المتبع لديهم، شعروا بأهمية المنهج، وعملوا على تغيير مناهجهم، وتحسين أساليبهم، وتطوير وسائلهم، فتحسنت أحوالهم، وانطلقت دعوتهم، وانفتحت قلوبُ الناس لهم…
فكان كثير من هؤلاء الدعاة يَرون صعوبةً في معايشة الناس في بلادهم، حيث ينتشر فيهم البدع والضلالات، وتُسيطر على بعضهم الأوهام والخرافات.
فلما تحدثت إليهم عن ضرورة التوازن بين طبيعة الداعية التي تنفر من المعاصي والآثام، وبين وظيفته التي تقتضي منه أن يعيش بين الناس، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر…
وبينتُ الفرقَ في أسلوب إنكار المنكر الخاص العارض، وبين أسلوب إنكار المنكر العام السائد، فتفهموا المنهج، وهان عليهم الأمر… ولا سيما عندما ضَربتُ لهم المثل بالطبيب الذي تنفر طبيعتُه من الأوساخ والأقذار، ويخاف من المكروبات والفيروسات؛ والذي تتطلبُ منه وظيفتهُ العيش بين المرضى والمصابين…
فلا بد له من تغليب وظيفته على طبيعته، فيقوم بعمله متحفظاً ومتحصناً، ومطهراً ومعقماً…
وإلا أصابته العدوى، وأصابه ما أصابهم…
ولو غَلَبت عليه طبيعتُه، عزلَتهُ عن وظيفته، وقعد في بيته، وعُدَّ طبيباً أحمق…
وهكذا (فإن المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم).
المَثَـل الثـانـي:
وهو مثال معاصر، حيثُ أُعجِبَ كثير من شباب المسلمين اليوم بما أطلق عليه (الثورة الشعبية) أو (الربيع العربي) الذي أقدم فيه كثير من شباب الأمة على خوض غمار الإصلاح للأنظمة والدول، دون قدرة على الموازنة بين الإمكانات والواجبات، كما فُتنَ كثير منهم بنجاحٍ نسبي لبعض هذه الاحتجاجات والتحركات، فانطلقوا يُحاكون غيرهم دون معرفةٍ بالفوارق، ودونَ تبصّر بالمآلات والنتائج، فجروا الأمة إلى معاركَ هي في غنى عنها، فسفكت الدماء، وانتهكت كثير من الحرمات، مما زاد الطين بلة، والواقع صعوبةً…
وشجعهم على ذلك بعض أهل العلم، غافلين عن المنهج القرآني في معالجة مثل هذه الأحداث، واستغلهم بعض المغرضين والمفسدين، ووقعوا فيما لا يُحمدَ عقباه.!!
ولما راجعني بعضهم في ذلك، وشرحوا لي أهدافهم الإصلاحية، وأساليبهم المتّبعة، بَصَّرتهم بالمنهج القرآني، وفَرَّقتُ لهم بين منهج الإصلاح والتغيير على نطاق الفرد الذي يكلفُ به الفرد، وبين منهج الإصلاح والتغيير على نطاق المجتمع والدولة الذي يُناط بأولي الأمر من الأمراء والعلماء… ذلك لأنهم وحدهم الذين يَقْدرون لهذا الأمر قَدْره، ويُعدّون له عُدَّته، ناظرين في ذلك إلى المآلات، وموازنين فيه بين الواجبات والإمكانات، وبين المفاسد والمفاسد،
وأرجعتهم في ذلك إلى المنهج القرآني، حيث يقول الله سبحانه: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته، لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)/83/النساء.
فقد أنكر الله عزوجل على الناس إذاعة أخبار الأمن أو الخوف، وإشاعتها بين الناس، كما أمر برد هذه الأخبار إلى أولي الأمر وهم (الأمراء والعلماء)، وبيّنَ، أن الذين يعلمون ذلك هم أهل العلم والاستنباط الذين يجب الرجوع إليهم، والالتزام بقرارهم… وحَذَّر من مخالفة هذا المنهج الذي تفضل عليهم به ورحمهم ببيانه، وأنهم بمخالفته يقعون في اتباع خطوات الشيطان… فَتَفهَّمَ هذا مَن تفهم منهم.. وقليلٌ ما هم …!!
واسمحوا لي أيها السادة بعد عرض هذه الأمثلة العملية لواقع بُعدنا عن المنهج القرآني والنبوي أن أختم حديثي بالتوصيات التالية:
1- ينبغي على الدعاة والعلماء العمل على استنباط المناهج والأساليب والوسائل الدعوية من القرآن الكريم والسنة النبوية، كما عمل العلماء على استنباط الأحكام الشرعية المتنوعة منهما.
2- ينبغي الاهتمام بعلم الدعوة والمنهج، وتدريسه على الدارسين في مختلف التخصصات الشرعية في الجامعات والمعاهد الإسلامية.
3- ينبغي توجيه الكاتبين في الدراسات الإسلامية، والرسائل العلمية إلى العناية باستخلاص المناهج القرآنية في مختلف الجوانب الحياتية، ولا سيما مناهج الأنبياء والمرسلين في الإصلاح والتغيير، الذين تحدث عنهم القرآن الكريم.
4- ضرورة مراجعة مناهجنا وأساليبنا الدعوية، في ضوء المناهج الربانية والنبوية، والعناية بما يعرف (بفقه المراجعات) و (فقه الموازنات).
ومما يُعيننا على تحقيق هذه التوصيات المهمة، قراءتنا للقرآن الكريم وللسنة النبوية بروح الداعية، كما قرأهما الفقهاء بروح الفقيه، وقرأهما اللغويون بروح اللغوي، والأطباء بروح الطبيب وهكذا…
ولا ننسى أن القرآن الكريم، والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان للداعية، عليهما اعتماده، ومنهما استنباطه، جاء في الحديث الشريف:
(إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبداً: كتاب الله، وسنةَ نبيه).
ويقول تعالى: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)/15-16/المائدة.
والحمد لله رب العالمين
كتبـها
د. محمد أبو الفتح البيانوني
حلب ـ سوية
27/11/1432هـ
25/10/2011 م