الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

اسمه ونسبه وميلاده:
هو العالم العامل، الداعية القدوة، الشيخ أحمد الصياد، الملقب بـ “عز الدين” ابن الشيخ عيسى بن حسن بن بكري بن أحمد البيانوني الحلبي. ولد في مدينة حلب من بلاد الشام، عام /1330/ هجرية، الموافق لعام /1913/م، وفيها نشأ وتلقى علمه، وهي ميدان علمه ونشاطه ودعوته، إلى أن توفي فيها عام /1395/ هجرية، الموافق لعام /1975/ م.

أسرته وبيئته:
ووالده هو الإمام العالم العَلم، الفقيه الأديب، الداعية إلى الله، المقتفي لآثار المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، المتبع لسنته، الورع الزاهد، التقي الصالح، الشيخ عيسى بن حسن البيانوني الشافعي، المولود بقرية “بيانون” من قرى حلب، وهي تبعد حوالي خمسة عشر كيلاً -كيلو متراً- شمالي حلب. وكان الشيخ عيسى رحمه الله قد أتى به أخوه الأكبر الشيخ حمادة من قرية بيانوني إلى مدينة حلب ليطلب فيها العلم، فطلب العلم ونبغ، واستقر مقامه فيها مع أسرته، وكان يخرج إلى بيانون بين الحين والآخر، لصلة الرحم، والدعوة إلى ربه. فأسرته –رحمه الله- أسرة علم ودين، وتقوى واستقامة، ودعوة إلى الله تعالى. وكان شيخ والده الإمام الشهير العالم العامل، الداعية الرباني، شيخ العلماء، وأسوة الدعاة الأتقياء: الشيخ محمد أبو النصر خلف ابن الشيخ سليم الحمصي، أحد كبار علماء الشام في العصر الحديث، ودعاتها ومربيها ومرشديها، حتى اهتدى على يديه عشرات الألوف في بلاد الشام وأريافها وباديتها، وتاب إلى الله تعالى بتأثيره ودعوته، خلق لا يحصون عدّا. وقد عُرف والده الشيخ عيسى رحمه الله بحب النبي صلى الله عليه وسلم، والوله بذكره والصلاة عليه، ونشر سيرته وشمائله، وحب الصالحين، وحسن الاعتقاد بهم.

نشأته العلمية والعلوم التي برز فيها:
ختم الشيخ رحمه الله تعالى القرآن الكريم، وعمره خمس سنين، وكانت تلك سنة عصره، يوجه الطفل أول ما يوجه إلى “الكتاب” يتلقى عنه مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ويتقن تلاوة القرآن الكريم وتجويده، حتى يختمه مع حفظ ما تيسر منه، ثم يدخل المرحلة الابتدائية. وأدخل رحمه الله تعالى المدرسة الابتدائية، وكانت الدراسة فيها خمس سنين، ثم تخرج فيها. وشاءت الأقدار أن يدخل الشيخ أحمد مدرسة “التجهيز الأولى”. وكانت الدراسة فيها تشمل المرحلة التحضيرية، وهي سنة واحدة، ثم المرحلة المتوسطة وهي ثلاث سنين، ثم المرحلة الثانوية، وتنقسم إلى دراسة ثانوية مدتها ثلاث سنين، أو التحاق بدار المعلمين، ومدتها سنتان، والدارسة فيها تشتمل على المقررات الثانوية مع مقررات اختصاصية لطلبة دار المعلمين، وكانت الحياة فيها داخلية، ثم يتخرج الطالب بعد سنتين معلماً، وكانت حياتها الداخلية ذات نظام دقيق، مع إشراف علمي وتربوي صارم. وكان كثيرا من الناس يؤثرون دراسة دار المعلمين، لما أنها قريبة المنال، خفيفة الأعباء والتكاليف، يسرع الفتى فيها إلى الحياة الوظيفية والاجتماعية.

ولقد حدثنا الشيخ رحمه الله أن والده الشيخ عيسى رحمه الله، هم مرات عديدة أن يخرجه من مدرسة التجهيز لينسبه إلى المدرسة الخسروية أو أي مدرسة شرعية أخرى، خوفا على ولده من بعض المدرسين غير المؤتمنين في المدارس الحكومية. وكان تخوف الشيخ عيسى رحمه الله تعالى له ما يبرره، ولكن شيخه الشيخ محمد أبا النصر رحمه الله تعالى، كان يثنيه عن ذلك، ويقول له: (إن ولدنا أحمد لا خوف عليه). ونبغ الشيخ أحمد رحمه الله في دراسته بين أقرانه، في جميع المواد الدراسية والنشاطات، فكان الأول بينهم، ثم تخرج الشيخ رحمه الله تعالى في دار المعلمين، ليدخل الحياة العملية معلماً ينظر إليه الناس نظرة التقدير والاحترام في زمن عزّ فيه التعليم، وندر المعلمون.

وأما العلوم التي برز بها، فنتكلم أولاً عن العلوم التي نبغ بها في حياته الدراسية، ثم في حياته الدينية والدعوية، ثم نلم إلمامة موجزة بمواهبه الفنية، ونتحدث عن نشاطاته، وما كانت تتمتع به شخصيته في هذا المجال، من مواهب وقدرات، لما لهذين الجانبين من صلة وثيقة بالعلوم التي برز فيها. فقد نبغ الشيخ رحمه الله في حياته الدراسية في عدة علوم، كان على رأسها علوم اللغة العربية وآدابها ونحوها وصرفها، وبلاغتها ونقدها، وشعرها ونثرها، فكنت تراه ناقداً دقيقاً لكل ما يقرأ أو يسمع من شعر أو نثر، وكان صاحب ذوق لغوي مرهف، وذا أسلوب في الكتابة، يمتاز بالترسل مع جزالة الألفاظ وقوتها، ووضوح المعاني، والبعد عن الأساليب الدخيلة، المتأثرة باللغات الأجنبية. قال يوما عن سر قوته اللغوية، وفصاحة تعبيره، وجزالة أسلوبه : “لقد قرأنا في مرحلة الطلب لهؤلاء كثيراً، واستفدنا من أساليبهم، ولكني لم أر أنفع من كثرة تلاوة القرآن الكريم مع التدبر لمعانيه، والتأمل في بديع تركيب جمله وآياته، والتعمق في فهم أسلوبه، وتعبيره عن شتى المعاني، باللفظ المعجز، والجملة الموجزة، التي لا يمكن التعبير عما تحتويه من المعاني إلا بكلام كثير طويل”.  وكان رحمه الله يحرص على اللغة الفصحى بدون تكلف، ويوصي باستعمالها في الكلام العادي والمخاطبات، والبعد عن العامية، وخاصة السوقية النابية منها التي دخلتها كلمات أعجمية كثيرة.

وقد نشّأ أبناءه وبناته على ذلك، وحارب فيهم أية كلمة تسبق إلى ألسنتهم بحكم المخالطة والتأثر بكلام الناس. وقد جمع في كتيبه الذي أسماه “أخطاء لغوية شائعة، وتصويباتها” خمسمئة كلمة شائعة وتصويباتها، وبناه على قول” لا تقل: كذا.. وقل: كذا” يعرض الخطأ والصواب، وقد طبع الكتاب عدة مرات ووزع مجانا، وكان يحرص على نشره وتوزيعه خدمة للعربية، وكتابها الأول، وحفاظا على اللغة الفصحى بصورة عملية.

وكانت لا تفوته في مجلسه كلمة من الكلمات العامية، التي لا أصل لها في اللغة إلا وينبه عليها، حتى غرس في نفوس جلسائه تقدير الفصحى، والاهتمام بها، ومحاسبة اللسان على كل كلمة يتفوه بها. وكان عندما يتكلم في القواعد والإعراب: تشهد وكأن النحو والصرف بين عينيه، يتكلم عن بديهة حاضرة، وفكرة واضحة، وأسلوب تعليمي جذاب. وكان يشحذ همم تلامذته في مجالس القرآن بعد الفجر في رمضان المبارك، فيذكر وجوه إعراب بعض الكلمات القرآنية وتنوع المعاني تبعاً لذلك، ويقرر بعض القواعد مما قطفنا من ورائه فوائد علمية كبيرة. وكان له فهم دقيق لقواعد الكتابة والإملاء، ورسم الهمزات بأحوالها المتنوعة، وله اجتهادات تنم عن ذوق لغوي ناضج، وترجيح لبعض الآراء العلمية على بعض بالمنطق والحجة والبرهان، وقد ضمّن احتهاداته دفتر تحضيره للدروس، الذي لا يعد دفتر تحضير فحسب، وإنما هو مؤلف خاص في قواعد اللغة وإعرابها وإملائها. ومما نبغ فيه من العلوم في حياته الدارسية: اللغة الفرنسية، فقد كان يجيدها إجادة تامة، وبقي إلى آخر حياته يتقنها قراءة وفهما ومحادثة، ويحث إخوانه وأتباعه على دراسة اللغة الأجنبية والاهتمام بها، لحاجة الدعوة ومصلحة الإسلام. وكان يستشهد رحمه الله تعالى أحياناً ببعض ما قرأ من الأدب الفرنسي، وما فيه من حكم وطرائف.

ومما اهتم به من العلوم، وكان مزية ظاهرة في شخصيته وحياته التعليمية والعملية والدعوية: علم النفس التربوي، فقد كان علماً على شخصيته، معلماً وموجهاً، وداعياً وخطيباً، وناصحاً ومذكراً، ورب أسرة مربياً. وهو لم يأخذ هذا العلم بصورة نظرية بحتة، ولم يقف عند ما تلقاه منه في أيام دراسته بصورة ضيقة محدودة، بل كان ما أخذه وتلقاه أيام الدراسة دافعاً له بعد اتجاهه للوجهة الدينية والدعوية، إلى مقارنته بما جاء به الإسلام، وما فهمه علماء المسلمين من نصوص الكتاب والسنة ومواقف السلف وأساليبهم. وأما العلوم التي نبغ فيها بعد اتجاهه الوجهة الدينية والدعوية: فقد كان له اهتمام ملحوظ بكل العلوم الشرعية العملية من التوحيد والتفسير والفقه والحديث والسيرة والتراجم والأخلاق والتصوف الشرعي، ويمكن أن يلحظ ذلك كل دارس لآثار الشيخ أحمد ومؤلفاته. على أن الأمر المميز للشيخ أحمد على كثير من أقرانه هو القدرة الفائقة التي آتاه الله إياها على تمثل العلم الذي يدرسه، ونقله للجيل المعاصر من الشباب، وتقريبه للثقافة الإسلامية بصورة عصرية ملائمة، ويلحظ ذلك بيسر من النظر العابر لآثاره ومؤلفاته، حتى كان للشيخ شرف المساهمة في إعداد كتب التربية الإسلامية لمراحل دراسية متعددة لما امتاز به من قدرة خاصة في ذلك وموهبة.

وأما مواهبه الفنية: فقد برع بالخط والرسم، وكان ذا ذوق عال فيهما، وذا تقدير بالغ لقيمتهما، وتمييز وتقويم للأعمال الخطية والفنية ونقد لها. فأما الرسم والأعمال الفنية، فقد شغل عنه بأعباء العمل الإسلامي ومسؤليات الدعوة، وكان يذيل ويزين ما يكتب على سبورات جامع “أبي ذر” ببعض الأزهار والورود، وعروق أوراقها، فيجتمع لما يكتب جمال الصورة من الخط والرسم إلى جمال المعنى، وقوة التوجيه والتعبير، وكنت تراه يرسم ذلك بخفة يد، وسرعة عجيبة، فإذا رأيت ما رسم لا تكاد تصدق أن ذلك كان في لحظات خاطفة، وبحركات سريعة أشبه بحركة الآلة الطابعة. وأما الخط: فقد نال حظاً أكبر من اهتمامه، وذلك لطبيعته المتصلة بحياة العالم والمعلم والداعية والمؤلف، ولكنه كذلك، لم ينصرف إليه انصراف الخطاطين، يشغل وقته، ويبدد جهده، ويستهلك نشاطه، وإنما كان له هواية محببة، لم تشغله عن مسؤلياته الدعوية وواجباته الشرعية. وقد كتب بيده بخط الرقعة الطبعة الأولى من كتابه “سبيل الهدى والعمل”.

وأما نشاطاته: فقد نشأ منذ الصغر على الفتوة وحب الرياضة، فشارك أيام دراسته في الفرق الكشفية، كما شارك في مجالات رياضية أخرى، وكان يحب لعبة كرة القدم، له فيها مشاركة جيدة أيام دراسته. وقد حدثنا رحمه الله تعالى أنه حضر رحلات كشفية كثيرة، كانوا يقطعون فيها أكيالا عديدة على الأقدام في مسيرات طويلة قد تستغرق سحابة يوم كامل، يحمل كل منهم حاجته ولوازمه الفردية بنفسه، وقد استفاد من ذلك استفادة كبيرة في حياته العملية، وتركت أثراً عميقاً في نفسه وشخصيته. وكان سباحاً ماهراً يجيد السباحة، ويحث عليها إخوانه، ويشجعهم على إتقانها، وقد علم أولاده السباحة كلهم حتى مهروا بها وأجادوها، وفي رحلاتنا معه كان يجري مسابقات في السباحة بين إخوانه، ويشجعهم على ذلك ويشاركهم فيها. وكان الاهتمام بالرياضة يحتل المكانة العالية في توجيهه لأبنائه وإخوانه، فكان أهم وصاياه التي يكلف بها كل أخ ملتزم في جماعته أن يتقيد بها، ولا يعذره بالتقصير فيها: أن يحرص الأخ على الرياضة اليومية عشر دقائق على الأقل. كما كانت الرياضة تحتل جزءاً لا يستهان به من البرنامج اليومي لرحلات إخوانه السنوية أو الخروج اليومي، الذي تقوم به مجموعات من الإخوة في أيام الربيع إلى بساتين حلب وضواحيها. وكان ينظر إلى الرياضة أنها جزء هام من بناء الشخصية الإسلامية الكاملة، وكان يعدها من الطاعات المقربة إلى المولى جل جلاله، فكان لا يسمح لأحد من إخوانه أن يهزل وقت الرياضة أو يضحك، لأنها من الأعمال الجدية التي لا يليق فيها الهزل. وقد أفاده اهتمامه بالرياضة وممارسته لها وحرصه عليها على ما كنت تراه عليه من الحيوية والنشاط والقوة والفتوة، على ما أصيب به من أمراض صحية مدة طويلة من حياته، فكان يغالب المرض كثيراً ولا يباليه، ويتجلد تجلد أولي العزم، وينسيك مرضه وأنت تزوره، ما تراه على وجهه من بشر، وما يفيض به شخصه الكريم من حيوية ونشاط وقوة وحركة.

زواجه وأولاده وأبرز تلامذته:
تزوج الشيخ أحمد السيدة عريفة بنت عبد العزيز الدباس، أخت صديقه الأستاذ عادل الدباس، وكانت من عائلة كريمة، وأصبحت بعد زواجه منه قدوة عملية صالحة لكثير من النساء من حولها، ولا سيما في التزامها بحجاب كامل على إثر رؤيا صالحة رأتها بعد زواجها منه بقليل، وتبعها فيه كثير من النساء في عصرها حتى عرف ذلك الحجاب بها.

وتلقت العلم والتوجيه عن زوجها الشيخ أحمد حتى أصبحت من كبرى الداعيات المؤثرات في النساء من حولها، واتخذت لها درساً أسبوعياً يقصدها فيه كثير من النساء في مدينة حلب، استمر حتى مرضت مرض الوفاة الذي طال سنوات.

وتوفيت رحمها الله يوم الثلاثاء 24/رجب/1399 هجرية الموافق 19/6/1979م، ودفنت في مقبرة الأعرابي التي دفن فيها زوجها.

وتزوج الشيخ بعد مرض زوجه السيدة وهبية الشيخة، وكانت امرأة صالحة رعته خير رعاية إلى أن توفي رحمه الله.

وقد وهب الشيخ من زوجه الأولى اثني عشر ولداً، ستة من الذكور وستة من الإناث، ثم رزق من زوجه الثانية أنثى ولدت بعيد وفاته.

وقد اعتنى الشيخ بتربية أولاده عناية لم نر لها نظيراً فيمن رأينا، ولم نسمع بمثلها عن العلماء والمشايخ، فحرص على توجيه معظم أولاده الذكور إلى طلب العلم الشرعي، ليكونوا علماء دعاة إلى دين الله، فنسبهم إلى الثانوية الشرعية بعد المرحلة الابتدائية، وكان يسمع من بعض الناس عتباً في ذلك: “لماذا كل الأولاد تريد أن تخرجهم مشايخ”!! فكان يرد على هذا القول “إن كل صاحب مهنة شريفة رفيعة القدر بين الناس، يعتز بمهنته ويريد أن يكون أولاده مثله، فالطبيب يريد لأولاده أن يكونوا أطباء، والمهندس يريد لأولاده أن يكونوا مهندسين، فلماذا الشيخ لا يريد لأولاده أن يكونوا مشايخ مثله، وإذا لم يكونوا أولاد المشايخ مشايخ، فمن يتوجه إلى طلب العلم الشرعي، ومن أحق بذلك منهم؟ ثم ما أحوج الأمة إلى طلاب العلم الدعاة إلى دين الله تعالى على بصيرة، ونحن نرى العلم الشرعي يقل بين الناس، والجهل يفشو يوماً بعد يوم!! وكان يعتب عتباً خفياً على العلماء والمشايخ الذين لا يحرصون على توجيه أبنائهم إلى طلب العلم الشرعي، والتخصص فيه. وكان يقول عنه بعض زملائه المخالطين له: “إذا لم يتحف الشيخ أحمد هذه الأمة إلا بما أنجب من بنين وبنات، كانوا أعلاماً، وتمثل فيهم المنهج التربوي الإسلامي على أحسن ما يكون، فكفاه خيراً وفخراً بما أسداه للإسلام والمسلمين”.

أولاده الذكور هم على الترتيب:
1- علي صدر الدين.
2- محمد عبد الله أبو الفتح.
3- محمد مطيع أبو المجد.
4- محمد غياث أبو النصر.
5- محمد موفق أبو اليسر.
6- محمد سهل أبو اليمن.

أولاده الإناث هم على الترتيب:
1- بشرى أم الفضل.
2- فاطمة الزهراء.
3- ألوف أم السناء.
4- خديجة أم الهدى.
5- عائشة أم اليمن.
6- مسرة أم البشر.
7- هبة الرحمن.

وأما تلامذة الشيخ فهم أكثر من أن يحصون، لأن الذين تأثروا بالشيخ رحمه الله في مختلف مراحل عمله التعليمي والديني والدعوي، ويعدون أنفسهم من تلامذته، ويتشرفون بهذه النسبة ويعتزون بها، لا يحصيهم عد ولا تجمعهم ذاكرة، وبخاصة في مرحلة عمل الشيخ في الثانوية الشرعية، التي هي مورد طلاب العلم ومنبتهم، ومعقل العلماء وحصنهم، وحسب الشيخ أحمد رحمه الله فضلاً وذكراً، وعند الله تعالى مثوبة وأجراً، أنه كان يمثل مدرسة دعوية تربوية أحيت كثيراً من المفاهيم الإسلامية التي كانت غائبة عن فكر الناس وواقعهم، وأصلت كثيراً من الحقائق الإيمانية والدعوية التي خيمت عليها الغفلة والنسيان، أو الجهل والعدوان.

آثاره العلمية ومؤلفاته :
وفق الله تعالى الشيخ أحمد رحمه الله، فكان من أولئك القلائل، الذين اعتنوا بالكتابة ورأوا فيها وسيلة حيوية من وسائل تبليغ الدعوة ونصرة الفكرة. وقد خلف لنا رحمه الله آثاراً كثيرة متنوعة، كلها ذات غرض دعوي وتربوي واضح الأهداف في موضوعه وفكرته.

أ – كتبه المطبوعة ورسائله:
أولاً: كتب ورسائل منوعة:
1- رسالة سبيل الهدى والعمل: وهو أول ما ألف من كتبه، جمع فيه أوامر الإسلام ونواهيه على شكل وصايا.. افعل كذا. واترك كذا، وبلغت وصايا تلك الطبعة /348/، ثم زاد عليها حتى بلغت /381/، فيما بعدها من طبعات، ونشر الطبعة الأولى منه بخطه الجميل، بتاريخ /1374/ هجرية، وقد وزع مجاناً، وكذلك سائر طبعاته، وترجم إلى لغات أخرى. وصدّر الطبعة الثامنة في حياته بمقدمة طويلة، توضح فكرته الدعوية، وما يراه من منهج عملي لخدمة الإسلام.
2- كتاب الاجتهاد والمجتهدون: وهو مجموعة مقالات لعلماء من العالم الإسلامي كان قد استكتبهم الشيخ رحمه الله، لبيان موقف علماء الإسلام من دعوة بعض الناس للعامة في بلاد الشام إلى الاجتهاد بدون تحقق شروط أو التزام حدود وضوابط، وله فيها مقالة ضافية.
3-كتاب قبسات من نور النبوة: وقد ألفه بالاشتراك مع فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله.
4- رسالة أخطاء لغوية شائعة، وتصويباتها: /500/ كلمة، نشر بتاريخ /1381/هجرية، الموافق /1961/م.
5-كتاب مجموعة العبادات على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: ختمه بقصائد من شعره في الحنين إلى المشاعر المقدسة.
6- رسالة التكريم الصادق بالاتباع الكامل: كتبها بمناسبة احتفالات الناس السنوية بربيع الأول، يبين فيها ما يجب على المؤمن تجاه نبيه صلى الله عليه وسلم.
7- الاشتراك مع بعض مدرسي التربية الإسلامية في وضع مناهج هذه المادة للمرحلة الابتدائية، وترتيبها.
8- رسائل دعوية وتربوية في موضوعات متنوعة: كان يكتبها لتوجيه إخوانه في المخيمات السنوية التي كانت تقيمها الجماعة أو في مناسبات أخرى.
ثانيا: سلسلة العقائد:
1- الإيمان بالله تعالى.
2- الإيمان بالرسل.
3- الإيمان بالملائكة.
4- الإيمان باليوم الآخر.
5- الإيمان، خصائصه وعلاماته: مطبوع في قسمين.
6- الكفر والمكفرات.
ثالثاً: سلسلة من هدي الإسلام:
1- شؤم المعصية وبركة التقوى.
2- هذا الإنسان.
3- الدعوة إلى الإسلام وأركانها.
4- من محاسن الإسلام.
5- الفتن.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7- القلب.
8- منهاج التربية الصالحة.
9- فضيلة الدعاء والذكر: مطبوع في قسمين.
10- الحق والباطل.
11- التوبة: مطبوع في قسمين.
12- العمل الصالح.
13- الرؤى والأحلام.
14- الهدى والضلال.
15- العشر المهلكات.

ب- مالم ينشر من كتبه وآثاره، ويشمل: المخطوطات من كتبه، والدروس والشعر.
أما المخطوطات من كتبه فأذكر منها:
1- كتاب بلوغ الأمل في شرح وصايا “سبيل الهدى والعمل”.
2- كتاب الآداب الإسلامية، وهو كتاب شامل، دهمه المرض، وهو يشتغل بتأليفه، وقد ألقى منه دروساً قبيل مرضه.
3- تتمة العشر المهلكات، فقد نشر ثلاثاً منها في كتاب، ووعد بالحديث عن سائرها، ولم يتمكن من إكمال ما كتب في ذلك.
4- مختارات من كلام السلف: تعد زبدة نافعة في التربية والتزكية، وقد أملى علينا قسما منها في لقاءات العمل التي كان يدير فيها شئون الجماعة، وتعرض عليه فيها أوضاع إخوانه، وما يجد لهم من مشكلات.
5- مجموعة العبادات على المذهب الشافعي: وهو كتاب على غرار كتاب (مجموعة العبادات على مذهب أبي حنيفة) ولكنه أوسع من مثيله، وأغنى بذكر الفروع الفقهية، والمسائل التي يكثر وقوعها، وقد أملى علينا منه قسماً في دروس عقدها للإخوة الشافعيين.
وأما خطبه : فكلها مكتوبة، وقد كانت آية في البلاغة، وقوة البيان، وجدة الأسلوب، وتنوع الموضوعات، والمعالجة للمشكلات المعاصرة.
ولو أن خطبه جمعت ورتبت لكان منها كتاب لا يقل عن أربع مجلدات في الدعوة إلى الإسلام، والتعريف بمبادئه، والحث على فضائله وآدابه، وغرس الاعتزاز به في نفوس أبنائه.
وأما دروسه الأسبوعية: فكلها مسجلة على أشرطة محتفظ بها، ولا ندري ما فعلت بها الأيام الآن.
وأما شعره: فقد كان للشيخ رحمه الله تعالى شعر جزل عذب، أكثره في المديح النبوي والشمائل، والدعوة إلى الإسلام وذكر محاسنه، وقد سماه “النزر الطفيف من نظم العبد الضعيف”.

ج- خصائص كتاباته ومزاياها:
لقد كان الشيخ أحمد رحمه الله من العلماء القلائل الذين أسهموا في سد الفجوة بين الجيل الغابر، والجيل المعاصر، الذي لم يعد يتقبل الأساليب القديمة في العرض والتأليف، ولم يستطع الكثير من المشايخ التحرر منها، وقد أوتي الشيخ أحمد رحمه الله قدرة خاصة على تقريب ذلك إلى لغة سهلة معاصرة، وتلخيصه بأحسن عبارة وأسهل أسلوب، ولقد أسهمت كتاباته رحمه الله في تحقيق هذا الهدف، وامتازت بعدة مزايا، أهمها:
1- تقريب العلوم الإسلامية وتبسيط عرضها، لتناسب لغة العصر، ولتكون مؤثرة جذابة، لا تنزل عن الخاصة، ولا تعلو عن مستوى العامة.
2- ربط الحقائق الإسلامية بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، والسيرة النبوية وهدي السلف الصالح.
3- عرض محاسن الإسلام ومزاياه ورد شبهات أعداء الإسلام وتفنيد مزاعمهم.
4- الاهتمام بالجانب التربوي العملي، والبعد عن الموضوعات التي لا فائدة عملية منها.
5- التركيز والاختصار، والبعد عن التطويل الممل، أو الاختصار المخل، أو الحشو والتكرار.

د- انتشار كتبه وعموم نفعها:
لقيت كتب الشيخ أحمد رحمه الله القبول من العامة والخاصة في حياته وبعد وفاته، وذلك لسببين رئيسيين:
1- لما كان يتمتع به رحمه الله من الصدق والإخلاص، والحرص على نفع الأمة، والتجرد عن شهوة الرياء والسمعة.
2- ولأنها سدت حاجة ملحة في نفوس الناس، لعرض حقائق الإسلام ومبادئه بصورة عصرية مناسبة، وأسلوب ملائم.
وأذكر من الوقائع التي صادفتها نماذج من اهتداء بعض الناس بقراءة كتب الشيخ رحمه الله، وانتفاعهم بها، وهم لا يعرفونه، فقد قدمت لطبيب مصري كتباً يقرؤها، لعدد من العلماء والمفكرين، ومنها كتب الشيخ أحمد رحمه الله، ولم أعرفه صلتي بمؤلفها، فقرأ تلك الكتب كلها، ثم ردها إلي، وهو يقول: “هذه الكتب كلها بكفة، وكتب الشيخ البيانوني بكفة أخرى، إن لها طعما خاصاً، وجاذبية خاصة، ولها روح متميزة”.
وتعرفت على طالب علم أنهى دراسته الجامعية، وما يعرف لذة العلم والتوجه بصدق إلى طلب العلم إلا بعد قراءة كتب الشيخ كما صرح لي بذلك.
وأهديت بعض أهل العلم الوجهاء سلسلة العقائد للشيخ أحمد رحمه الله، فقرأتها بناته، وهن يدرسن في الجامعة دراسة شرعية، فقرأنها وأعجبن بها، وأقسمت إحداهن أنها لم تكن تعرف كثيراً من حقائق العقدية الإسلامية إلا بعد أن قرأت هذه الكتب.
وحدثني بعض الإخوة من الخطباء اللامعين، أن كتب الشيخ أحمد رحمه الله، لا تزال هي المرجع الأساسي الذي يعود إليه في تحضير خطبه ودروسه، ومحاضراته للعامة، لما تمتاز به من حسن العرض، وسهولة الأسلوب ووفرة الأدلة.
هذا وقد ترجمت بعض كتب الشيخ رحمه الله تعالى إلى لغات أخرى، فعم نفعها وطبعت رسالته “سبيل الهدى والعمل” في عدة بلدان عربية طبعات عديدة، بعض هذه الطبعات كان مع تغيير اسمها خشية مطالبة مؤلفها بحقوق الطبع، وقد جعلت وقفاً لله تعالى ليعم خيرها نفعها.

مرضه ووصيته، ووفاته وجنازته ودفنه:
إن كل من كان يعرف الشيخ أحمد رحمه الله تعالى عن كثب من إخوانه ومحبيه، ويرى ما كان يتمتع به من حيوية ونشاط، وهمة وفتوة، يتصور أنه يعيش عمراً مديداً، وأن حظ الأمة في مثله مذخور وافر. يقول الشيخ الدكتور: عبد المجيد البيانوني – زوج ابنة الشيخ-: ولقد كان لنا مع الشيخ عدة لقاءات أسبوعية علمية توجيهية، تبحث فيها أوضاع الإخوة، وتعرض على الشيخ رحمه الله تعالى مشكلاتهم، فيقدم لنا الحلول المناسبة، ويتابع معنا ما سبق عرضه، وقدمت له الحلول، فكانت أمور الجماعة تعرض على الشيخ في هذه اللقاءات، ونصدر فيها جميعا عن رأيه وتوجيهه. وفي لقاء من هذه اللقاءات بعد الفجر، في أواخر جمادى الأولى من عام /1395/ هجرية، جلس إلينا الشيخ رحمه الله، وقد بدت على وجهه مظاهر الوهن، فشكى ما يحس من آلام منذ أيام، وضعف في جسمه وفتور، يكابد ذلك ويغالبه، فاختصرنا لقاءنا حرصا على صحة الشيخ وراحته، ثم التقينا بعد ذلك، فحدثنا أنه زار بعض الأطباء الذين يثق بهم، وحدثهم بشكواه، فوصفوا له بعض العلاجات والمسكنات، ثم ازدادت شكوى الشيخ، وظهرت عليه بعض الأعراض الغريبة، فتخفف من اللقاءات قدر المستطاع، وشخص حالته بعض الأطباء أنها “روماتيزم شديدة” وقد رافقها “سكر الشيخوخة” وتناول الأدوية التي نصح بها، ولكن صحته لم تتحسن، بل تزداد مع الأيام تدهوراً ملحوظاً، حتى أقعدته آلامه عن القيام بالخطابة والتدريس واللقاءات مع الإخوة الموجهين، وتوقف كذلك عن النشاطات العامة التي كان يقوم بها، ووكل بالخطابة والتدريس بعض إخوانه، ثم اشتد المرض بالشيخ، وظهرت أعراض أخرى حار بها الأطباء.

ونصح بعض المحبين أولاد الشيخ أن ينقلوه للعلاج خارج سورية، وشجعهم على ذلك أطباؤه الخاصون، فنقل إلى عمان، وأجريت له الفحوصات اللازمة والتحاليل المتنوعة. فكان تشخيص مرضه هناك مختلفاً تمام الاختلاف عن تشخيص الأطباء في حلب، وأشرف سعادة الدكتور قنديل شاكر على علاج الشيخ في عمان، واعتنى به غاية الاعتناء، وهو من خيرة الأطباء المختصين، ثم أخبر أولاده أن مرضه هو السرطان في الدم، ونقّي العظام، وعندما استكمل التحاليل، ولاحظ سير الدواء، نصحهم بالعودة به إلى حلب، فلا حيلة للطب وقتئذ في علاج هذا المرض، كما أكد عليهم أن يزيدوا من العناية بالشيخ، لأنه يعاني في مرضه من آلام مبرحة، مالو علم عدوه به لأشفق عليه، ورق لحاله.

وضرب الشيخ في مرضه مثلاً رائعاً في الصبر والجلد، وتحمل الآلام الشديدة، والبعد عن الشكوى احتساباً لله تعالى، ثم اشفاقا على أهله وأولاده وإخوانه ومحبيه. وكان كل من يعوده يشهد آثار الآلام المبرحة على وجهه، وفي وعكات جسده الذي يرزح تحت وطأة المرض ويئن، ولكنك كنت لا تسمع منه إلا كلمات الرضا عن الله تبارك وتعالى، والثناء عليه سبحانه بما هو أهله. وكان كثيراً ما يطمئن إخوانه ومحبيه عندما يسألونه عن حاله، فيجيبهم بقوله: “سنطيب إن شاء الله” وكأنه كان يوري بذلك عن انتقاله من هذه الدار إلى الدار الآخرة. وعندما عاد الشيخ من عمان نزل بدمشق عند ولده الشيخ محمد أبي النصر، وكان ولده يقضي مدة التجنيد الالزامي، فمكث في دمشق شهراً، وكتب الشيخ رحمه الله تعالى فيها وصيته الأولى، ثم نقل إلى حلب واشتد مرضه يوما بعد يوم. وكان على شدة مرضه وما يعانيه من آلام لا يقرّ أمامه أية مخالفة شرعية، فكان يشير إشارة مفهومة لإنكار ما يراه مخالفاً للسنة، فإذا رأى بعض من حوله يشرب بشماله، يشير إليه أن يشرب بيمينه، وإذا أراد بعض أهله أن يلبسه ثوباً، وقدم له الكم الشمال امتنع عن تقديم يده، ولم يقدم إلا يمينه، وكل ذلك يدل على مدى حرصه على السنة، وتمسكه بها رحمه الله تعالى. ثم كتب الشيخ وصيته الثانية وختمها، وكلف كل من حضر من أولاده أن تسلم لولده الشيخ محمد أبي النصر، وأن لا تفتح إلا بعد وفاته.

ونلخص ما جاء في وصية الشيخ الأولى التي كتبها بدمشق، والثانية التي كتبها في حلب، وسبقت وفاته بما يقرب من شهر بالتالي:
1- الوصية بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، والقول والعمل، ومراقبته في كل شأن، والحرص على التمسك بالكتاب والسنة، والبعد عن كل ما يخالفهم.
2- التمسك بالسنن النبوية، والآداب الشرعية التي كثر تساهل الناس بها، وتهاونهم في أمرها، وعدم التفريق في التمسك بين واجب ومندوب، وفي الترك بين محرم ومكروه.
3- الحرص على التناصح والأخوة، وأداء حقوقها وآدابها، والاعتصام بحبل الجماعة.
4- الحذر كل الحذر من التقليد للأجانب في أي مظهر من المظاهر، والاعتزاز بالإسلام قولاً وعملاً وخلقاً وسلوكاً.
5- الحرص على تربية البنين والبنات تربية إسلامية كاملة، والحذر من كل ما يخل بها، والتأكيد على توريث الإسلام لمن بعدنا كاملاً.
6- براءته من كل ما يخالف، ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في أي شأن.
7- حثه أهله وأولاده وإخوانه ومحبيه على الثبات على ما تركهم عليه، حتى يفارقوا الدنيا وهم على ذلك.
8- وصيته لإخوانه بالسمع والطاعة لمن يولى عليهم، والحرص على اجتماع الكلمة ونبذ الفرقة والخلاف.
9- تأكيده على أهله وأولاده وإخوانه ومحبيه أن يعتصموا بالصبر، وأن يحتسبوا عند الله المصيبة بفقده، ويتذكروا مصاب الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وألا يصدر من أحدهم ضجر أو نياحة أو شيء مخالف للسنة.
10- اختياره لولده الشيخ محمد أبي النصر، أن يكون خليفة له من بعده، يسير بإخوانه على منهجه، ويتقي الله فيهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يكون ولده الشيخ محمد أبو الفتح هو المرجع العلمي للجماعة.
11- مسامحته لكل من آذاه أو أساء إليه، أو طعن فيه أو نال منه، وأنه لم يخالف أحداً، ولم يختلف مع أحد إلا لله وفي الله، وما كان بينه وبين أحد خلاف على دنيا أو ضغن لحظ نفس، وتمثل بقول الإمام الشافعي:
من نال مني أو علقت بذمته***سامحته لله، راجي منته
كيلا أعوق مؤمنا يوم الجزا***أو لا أسيء محمد في أمته
12- إرشادات تتعلق بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه، وأن يتبع في ذلك كل ما جاء في السنة، وأن يصلى عليه في جامع “بان قوسا” ويدفن في مقبرة “الأعرابي”.
ومع بداية شهر ذي الحجة من عام /1395/ هجرية، بدت حالة الشيخ الصحية توحي بقرب المنية، فضعف الجسم يزداد، والآلام تتضاعف، والقوة على الحركة لم تبق منها إلا ذبالة، والروح تزداد إشرافاً وصفاء، ونوراً ورواء، ولكن السمع والبصر، والعقل والفؤاد، كل ذلك كان بقوته وسلامته، وكأن ما كان يؤخذ من ذلك الجسد المضني، يعوض عنه لتلك الروح الربانية الخالصة.

وجاء يوم الجمعة السابع عشر من ذي الحجة من عام /1395/ هجرية، وصلى الشيخ صلاة الفجر في فراشه ثم اضطجع ونام قليلاً، ثم استيقظ وجلس، ثم جاءته حالة غريبة، وقف أهله وأولاده فيها مذهولين دهشين، إذ انبعثت من داخل جوفه كلمة “الله” بصوت قوي مسموع، وكان صوته مختفياً مدة مرضه، لا تسمع منه إلا همسا خفيفاً، فما زال يكرر هذه الكلمة العظيمة الجليلة بمثل هذا الصوت ويتحرك بها صدره بقوة، وتختلج بها أطرافه أكثر من نصف ساعة، ثم انقطع صوته فجأة، وسكنت أطرافه، وفاضت روحه إلى بارئها. فمدده أحد أولاده على فراشه، وسارع إلى استدعاء الطبيب فحضر، وعلم من أول نظرة أن الروح فاضت إلى بارئها، فأقبل على أولاده يواسيهم ويعزيهم، ويخفف من مصابهم، وطار الخبر كل مطار، وبلغ إخوان الشيخ وأحبابه، فكان وقع المصيبة عظيماً، وكانت مفاجأة الخبر فاجعة مذهلة. وحضر ولده الشيخ محمد أبي النصر ليلاً وأعلن أن الصلاة عليه ستكون بعد صلاة العصر يوم السبت في جامع “بان قوسا” على حسب وصيته. وازدحم المحبون في جامع أبي ذر صباح يوم السبت، تبدو على وجوههم لوعة الحزن والأسى، لقد كانوا يشعرون أن فقد آبائهم وأمهاتهم أخف وأهون من هذا الرزء الفادح، والخطب الأجل، لقد ذاقوا لذة الحب في الله، وعرفوا فضل العالم العامل، ومنزلته من الأمة، وأثره في حياتها. وغصّ المسجد بالوافدين، وسجي الشيخ بعد تغسيله في مجلس المكتبة “الليوان” ودخل إخوانه ومحبوه ليلقوا عليه نظرة الوداع قبل الصلاة عليه ومواراته في الثرى.

ولقد كان مشهد الجنازة وازدحام الناس فيها دليلاً على مكانة الشيخ ومنزلته في نفوس الناس، وعنوانا على حب الله له، إذ وضع له القبول في أهل الأرض. ثم دفن الشيخ رحمه الله تعالى فأحسسنا أن قلوبنا معه دفنت، واحتبست الزفرات بين الضلوع، وتضاعفت أنات القلوب، فإنا لله وإن إليه راجعون. وداعاً أيتها النفس المطمئنة.. (ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي) “الفجر /28-30/. اللهم لا تحرمنا بفضلك أجره، ولا تفتنا برحمتك بعده، ولا تضلنا عن منهجه، واغفر لنا وله .