حول ما كتب عن فضيلة الشيخ أبو الفتح البيانوني
بسم الله الرحمن الرحيم
اطلعت من خلال تصفحي لما كُتِب عني من تعليقات في صفحات التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) خلال السنتين الماضيتين، مما كنت أتجاهله وأعرض عن أكثره، فرأيت العجب العجاب ..!!
ومما زاد تعجبي كون بعض من كتب ناقدا أو متهجما من بعض الأقارب وأحباب الأمس !!
وقررت عدم التعرض للكاتبين والطاعنين ، عملا بوصية شيخنا وحبيبنا فضيلة د. إبراهيم السلقيني – رحمه الله تعالى وجعله في عليين– حيث أطلعني في جلسة خاصة على بعض ما كتب عنه متألما ومتعجبا ، وقال إن بعض أحبابه طلب منه الرد على الطاعنين، فأجابهم (لا أريد أن أرد على أحد ، وإنما أدعو لهم بالهداية ، وأعمل بقاعدة : وأعرض عن الجاهلين) وتم اتفاقي معه على ذلك .
إلا أنني رأيت من المستحسن اليوم توضيح طبيعة علاقتي مع الشيخ – رحمه الله– ولا سيما في أيام الأزمة السورية ، نظرا لتحسّس كثير ممن كتب عني من ذكر اسم الشيخ في كتاباتي ، أو الاستشهاد بمواقفه وآرائه، عسى أن يخفف هذا من ذلك التحسس العجيب، وأن يعرف الجميع مدى عمق العلاقة بيني وبينه – رحمه الله تعالى–
فالشيخ – رحمه الله – مع أنه كان يكبُرني ببضع سنوات فقط، فقد كنت أعامله معاملة الوالد – رحمه الله – نظرا لما عرفته من حسن خلقه وتواضعه، وإخلاصه وتفانيه في سبيل الله .
وقد أكرمني الله عز وجل بالقرابة منه ، حيث تزوج ولده المهندس محمود – وفقه الله وسدده– أصغر أولاده، من أصغر بناتي ، فسَعدتُ وسَعِدت ابنتي بهذه القرابة، وزادت العلاقة قوة، والمودة مودة …
كما أكرمني الله عز وجل أن أعيش معه الأزمة السورية أيام الثمانينات، وأن أشاركه الرأي فيها وأتعاون معه في سبيل معالجتها مع ثلة كريمة من أهل العلم والفضل، الذين توفى الله أكثرهم – رحمهم الله -، ولطالما تدارست معه معطيات تلك التجربة المؤلمة ، واستخلصت العبرة منها ، وكانت آراؤنا والحمد لله متطابقة في ذلك .
وقدر الله بعد ذلك أن يجمعنا في حلب منذ 7 سنوات تقريبا، بعد انقطاع طويل لي عنها، فجلسنا نعيش معا ذكرياتِ الأمس بعبرها ونتائجها، حتى طلت عينا الأزمة الجديدة برأسها منذ ثمانية عشر شهرا تقريبا، فقام الشيخ بصفته مفتيا لحلب، بجمع ثلة كريمة من علماء حلب، يشاورهم في أمور الإفتاء خاصة، وفي بعض الأمور العامة، وقد أكرمني بجعلي واحدا منهم، وكان من منهج هذه الجلسة : التزام الشورى الصادقة، واتخاذ القرار في أي مسألة تعرض برأي الأكثرية، والتزم الجميع بذلك والحمد لله .
ووقف علماء حلب هؤلاء من الأزمة الجديدة الموقف المعروف عنهم، والذي تبنى منهج التغيير والإصلاح، ومتابعة ذلك مع المسؤولين، ونصح الشباب الثائر المتحمس بالهدوء، دفعا لما كان يتوقعه العلماء من مفاسد من وراء تحرك الشباب، نظرا لمعرفتهم الكبرى بالواقع ومعطياته …
وتابع الشيخ باسمه أحيانا، وباسم علماء حلب تارة ، صلته بالمسؤولين على مختلف مستوياتهم، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، بأسلوبه الصريح والحكيم .
فاستجاب لهم من استجاب، وخالف في ذلك من خالف، وتطورت الأزمة بعد ذلك إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تقر به عين عاقل .
فانهالت الضغوط الكثيرة من المخالفين علينا عامة، وعلى شيخنا – رحمه الله – خاصة، بغية تغيير قناعتنا وموقفنا، إلا أن الله عز وجل سددنا وثبتنا والحمد لله، ببركة الصدق مع الله، والتزام الشورى الصادقة بيننا …
وكنت كلما زرته في بيته أو مكتبه ، شكا لي مما يلاقيه من بعض الأقارب والأباعد، من إنكار لموقفه ، ومحاولات لتغيير قناعته، وكثيرا ما كان يبكي ألما من موقف بعض هؤلاء ..!!
وقد شاهدت خلال زياراتي له في بيته أو مسجده بعض هذه المواقف المؤلمة، التي كانت تدفعني إلى التدخل أحيانا بالنقاش، أو في التخفيف عن الشيخ من هذا العبء ، فيشكر لي ذلك ، ويتصل بي مباشرة أو عن طريق ابنتي ( كنته ) معتذرا عنهم وعن إساءة بعضهم إلي، وكثيرا ما كان يؤرقني ذلك والله أعلم، إشفاقا على الشيخ ورحمة به .
واستمر الضغط على الشيخ بمثل تلك المناقشات والمراجعات ، حتى ختمت حياته بعد إحداها، فكانت السبب المباشر لوفاته، وأتحفظ عن ذكر بعض الأسماء التي عرفتها أو شاهدتها، حفاظا على كرامة أصحابها، ودفعا للحرج عنهم -غفر الله لهم– وكم تمنى بعضهم أن يصحو الشيخ من إغمائه الذي طال أياما ليستسمحه ويعتذر منه .
وهنا أود أن أقول شهادة أمام الله وأمام الناس: إن الشيخ – رحمه الله – لم يتغير موقفه من الأزمة السورية يوما ما، بل مات وهو متألم من عدم الاستجابة لموقفه ورأيه من قبل بعض أحبابه، لما رأى من سلبيات كان يتوقعها، وإن كل من يدعي غير ذلك ، أو ينقل عنه خلافه من قريب أو بعيد، يكون مُتجنيا عليه، وظالما له، أو راغبا في أن يتقوى به أمام الناس بعد وفاته .
ويوم أن أهديته كتابي (دليل الخطيب)، وقف فيه على خطبة للشيخ الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى– كان قد ألقاها من الإذاعة السورية مخاطبا الجيش العربي السوري ، ومُحيّيا موقفه ضد المستعمر الفرنسي – كما بينت هذا في كتابي ووثقته– وكان عنوان الخطبة ( نحن أمة الخلود ) فأعجب الشيخ بهذه الخطبة ، واقتبس كثيرا من كلماتها، وألقاها في خطبة الجمعة في جامع الإمام أبي حنيفة – رحمه الله تعالى- في حلب ، مخاطبا الأمة المصابة بجميع شرائحها ، مُستنهضا لهمتها، ورافعا لمعنوياتها ، فظن بعض من سمعها، أو كثير منهم أن الشيخ أراد بها تشجيع الشباب على تحركهم وثورتهم ..!! فسُئل عن ذلك صراحة، فأجاب بالنفي المطلق ، وقال : لا حول ولا قوة إلا بالله .
هذا ما أحببت توضيحه من العلاقة بيني وبين الشيخ –رحمه الله تعالى– وبيان موقفه من أول يوم من أيام الأزمة، إلى أن توفي – رحمه الله – سائلا الله عز وجل أن يجعله في عليين مع الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن يلحقني به على أحسن حال، وأن يثبتنا جميعا بقوله الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد .
وأدعو المخالفين لنا في الرأي ، إلى أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي علمائهم، وفي أمتهم، عسى أن يفرج الله عنا كربنا، وينقذ العباد والبلاد من شر أريد بهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين .
9 – 10 – 2012