تعليقا على رأي الشيخ المحدث نور الدين العتر حول الأحداث السورية

حول الحراكات الشعبية

أرسل إلي أحد الأخوة المشاركين في هذه الصفحة صورة لأخينا الكبير العلامة المحدث: الدكتور نورالدين عتر –حفظه الله تعالى- وكلاما جاء فيه: ( منذ بداية أحداث الربيع العربي سئل محدث الديار الشامية العلامة الفقيه الدكتور نورالدين عتر- حفظه الله ونفعنا به وبعلومه- ماذا يجب علينا في خضم هذه الأحداث ؟ فقال: اقرؤوا أحاديث الفتن، واعملوا بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وجنبوا أنفسكم الوقوع في الفتن) …

فسألني المرسل: ما تقول في هذه الإجابة ؟
فقلت: هذا كلام العلماء الربانيين العارفين بما يجري من حولهم، والذين يعيشون داخل بلادهم، بعيدين عن المؤثرات الخارجية، والضغوطات الجماهيرية، وهو موقف جُل علماء الداخل وعقلاء الأمة … الذين بدأ كثير من الشباب بتفهم موقفهم من الأحداث الجارية، بعد أن رأوا الآثار السلبية لما أقدموا عليه بوحي من أعدائهم، وتزيين شياطين الإنس والجن لهم، وقد سبق لرسولنا صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه سبحانه: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة التوبة: 128) ،أن حَذَرنا من الوقوع بالفتن، وحدثنا عن السنوات الخداعات: التي يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويُخون فيها الأمين، ويُؤمن فيها الخائن، وسينطق فيها الرويبضة، وهو: التافه ينطق بأمر العامة… كما حدثنا أنه سيأتي زمان نرى فيه: حدثاء الأسنان، وسُفهاء الأحلام، الذين يقولون بقول خير البرية، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية …
ومع هذا نرى اليوم كثيرا من المسلمين كبارا وصغارا، يغفلون عن هذه الوصايا النبوية، وينساقون وراء العواطف الجامحة، والحركات الغوغائية، التي خلفت ولا تزال الهلاك والدمار …
أسأل الله عز وجل أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يلطف بالبلاد والعباد، وأن يعيدنا إلى رشدنا، لنتمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وأن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعل العاقبة خيرا… إنه سميع مجيب.

ولما وصلت كلمات سيدنا الشيخ محمد أبو الفتح البيانوني لمسامع سيدنا الشيخ نور الدين عتر حفظهما الله تعالى،
قال سيدنا الشيخ نور الدين: الشيخ أبو الفتح سرٌّ جَدّه.
يقصد جدّه الشيخ العلامة الولي العارف المحب عيسى البيانوني رحمه الله ورضي عنه (ت: ١٣٦٢هـ).
 =-=-=-=-=-=-=
 

لقد ترددتُ كثيرا في كتابة هذه الكلمات حول الفتنة التي ضربت أطنابها في بلدي الحبيب سورية، ظنا مني أن أمرها قد وضح و افتضح، بعد أن رأيت الآلاف من المسلمين تفهموا أمرها، وبدأوا يتطلعون إلى الخروج منها… إلا أنه أطلعني بعض الأبناء على كتابات لبعض طلبة العلم وغيرهم، علقوا فيها على مقالة سابقة لي حول الفتنة القائمة، وعلى موقف فضيلة الشيخ الدكتور: نور الدين عتر- حفظه الله – منها وتعليقي عليه … فرأيت من الواجب علي توضيح بعض النقاط، وتذكيري الإخوة ببعض الحقائق التي سبق توضيحها، قياما بالواجب، وإبراءً للذمة…
وأعجب شيء وقفت عليه في هذه التعليقات – ولعلي أكتفي بالتعليق عليه فقط – قول بعضهم: إن كلام الدكتور نور الدين عتر يصلح قبل سنتين، وليس الآن..!! الذي يعني بقبول تسمية ما يجري فتنة يوم كانت مفاسدها متوقعة لدى العقلاء والعلماء، ورفض تسميتها فتنة بعد أن أصبحت مفاسدها واقعة متحققة بينةً لكل ذي بصر وبصيرة..!!
وهنا أذّكر بما قلته سابقا وأؤكد عليه من أن من مظاهر هذه الفتنة :
– اختلاف أهل العلم والعقل فيها، وفي عدها فتنة أو غير فتنة، مما يجعل الحليم فيها حيران.
– تقاتل المسلمين فيما بينهم، وسفك دمائهم ، وتدمير ديارهم، ومساجدهم، ومشافيهم، ومصانعهم، وأمور معاشهم … إلخ.
– تشويه صورة الجهاد الإسلامي الذي هو: (ذروة سنام الإسلام) وتصويره بأنه سفك للدماء وتدمير لمتطلبات الحياة…
– القيام بهذه الحراكات دون موازنة دقيقة بين الواجبات والإمكانات .!!
– لجوء الناس إلى أعدائهم، واستقواؤهم بهم، والاطمئنان لوعودهم الكاذبة، وعدهم أصدقاء ..!!
– رفض أي حوار يُدعى إليه بين الطرفين، يسعى إلى حقن ما بقي من الدماء، وما تبقى من عمار..!!
– انتشار أسلوب اللعن والطعن بين الأطراف، حتى بلغ مبلغ السفاهة والجنون..!!
إلى غير ذلك من مظاهر تكشف اللثام عن وجه هذه الفتنة المهلكة …
وحتى لا أكرر كثيرا بعض النقول في ذلك، سأكتفي بهذين النقلين الجديدين لعالمين، لا أظن أن أحدا من المعلقين سيتهِمُهمَا بالنفاق أو التخذيل…
1- يقول الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- لمن جاءه من فقهاء بغداد يشاورونه في الخروج على الخليفة (الواثق) يوم شدة محنة القول بخلق القرآن الكريم، بعد أن ناظرهم ساعة، قال: (عليكم بالنُكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تَشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بَرٌ، أو يُستراح من فاجر، وفي رواية: قال له أحدهم: (أما علمت ما كان الناس فيه – يعني أيام الفتنة- ؟ والناس اليوم أليسوا في فتنة يا أبا عبد الله !؟ قال: وإن كان !! فإنما هي فتنة الخاصة، فإذا وقع السيف، عَمّت الفتنة، وانقطعت السبل، الصَبرَ على هذا، ويَسلم لك دِينُك خيرٌ لك، وقال: الدِماءَ الدِماءَ …)(انظر المسائل المروية عن أحمد في العقيدة)( 2/4) باختصار.
2- يقول العلامة ابن خلدون- رحمه الله- في مقدمته المشهورة صفحة 159: (ومن هذا الباب: أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طريق الدين، يذهبون إلى القيام على أهل الجَورِ من الأمراء ، داعيين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم، (و المتلثلثون بهم) من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه …) انتهى. ولم أجد لكلمة المتلثلثون أصلا في اللغة، ولعلها خطأ مطبعي، ويراد بها الملتحقون بهم أو الواثقون بهم .
وختاما أقول: أعتذر عن متابعة الجدل والحوار في هذه المسألة، وأقول: (إن في هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) .
وأستغفر الله لي وللإخوة المعلقين، سواء من عرفت منهم ومن لم أعرف، اللهم آتنا من لدنك رحمة، وهيء لنا من أمرنا رشدا …
والحمد لله رب العالمين..

٢٣ فبراير ٢٠١٣

=-=-=-=-=-=-=

 

أشكر الإخوة الذين تفهموا مرامي الكلمة الأخيرة، وعلقوا عليها تعليقا حسناً، ورغبة في توضيح النقطة الثانية منها –كما طلب أحد الأحبة المعلقين-، أقول:
لما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام، الذين يقولون بقول خير البرية..إلخ .. يلامس واقع كثير من شباب الحراكات الشعبية القائمة… تَوَجّه بعض الكاتبين من طلبة العلم إلى تأويل الحديث الشريف وتحريف معناه، والتكلف في فهمه.. ليدفع عنهم هذه الأوصاف محبةً لهم، وتعصباً لموقفهم… على الرغم من وضوح الحديث الشريف!! بدلاً من أن يُحَذّرهم مما وقعوا فيه، ويُحَذر من شر عاقبة تصرفاتهم!! وذهب بعضهم يُبين فضل الشباب وإيجابياتهم.. وكأنه فهم الحديث الشريف يطعن في شباب الأمة جميعاً، وحاشاه من ذلك.
فالمقصود منه: أولئك الشباب الذين فُتِنوا بأنفسهم، ورأوا أنهم أعلم من علمائهم، وأعقل من عقلائهم، والذين بلغ من سفاهتهم إطلاق ألسنتهم في طعن العلماء والعقلاء المنتقدين لهم، حتى وصل الحد ببعضهم إلى أعلى حدود السفاهة في القول، وإلى اعتماد أسلوب اللعن والطعن، والسباب والشتائم… الذي مُلئت به صفحات الفيس بوك وغيرها.. بل وصل الأمر إلى بعض من يُنسَب إلى العلم أن يفتيهم عندما سألوه عن حكم اللعن لفلان أو فلان من الناقمين عليه، الذي أنكره عليهم بعض عقلاء الشباب وغيرهم، أن يقول لهم: إن هذا اللعن بمنزلة ذكر الله، والتسبيح والتهليل –والعياذ بالله-!!
فبارك الله في شباب الأمة العقلاء، ووقانا شرّ السفهاء الذين إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا أؤتمنوا خانوا، وإذا خاصموا فجروا..
كما نعوذ بالله من شر الفتن المهلكة التي تطيش فيها عقول الناس، وتدع الحليم فيها حيران… ففي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون فتنة تعرج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً). أخرجه الهندي في كنز العمال وصححه، ولعل معنى “تعرج” هنا: تغيب، لأن العَرَج في اللغة: غيبوبة الشمس. والله أعلم.

١٧ مارس ٢٠١٣