كُنتُ أُعْجَبُ … فَصرتُ أَعْجَبُ…!!

حول الحراكات الشعبية

   كنت وأنا في سن الشباب أُعْجَبُ بأولئك الخطباء في كثير من بلدان العالم الإسلامي ، الذين يجرؤون في خطبهم ، فينتقدون على منابرهم الكبير والصغير ، ويخاطبون على منابرهم المخطئين بأسمائهم أو بأوصافهم ، ناهين لهم عن المنكرات ، ومحذرين لهم من غَضب الله ، ومهددين لهم بمختلف أنواع التهديد …

فكنت أُعْجَبُ بمواقفهم وخطبهم ، وأرى فيهم الجرأة في قول كلمة الحق ، إذ لايخافون في الله لومة لائم ، ولا غَضبَ وزير أو حاكم …

وكنت أطرب لسماع هذه الخطب ، وأحرص على الصلاة عند أصحابها، كما يطرب لذلك كثير من شباب اليوم ، بل كنت أبحث عن أشرطة مسجلة لبعض هؤلاء الخطباء من داخل البلاد وخارجها …

فلما جاوزت الأربعين من العمر ، تجاوزت هذا الموقف، وصرت أَعجبُ من هؤلاء الخطباء الذين كنت أُعْجَبُ بهم ، فرأيتهم قد تجاوزوا المنهج السليم في الخطابة ، وابتعدوا بأسلوبهم عن البصيرة الدعوية ، والحكمة النبوية ، حيث وضعوا الأشياء في غير موضعها ، ودخلوا البيوت من غير أبوابها ، فكانوا مُعَسْرين مُنفْرين ، بدلاً من أن يكونوا مُيسْرين مُبشْرين …

وحاورت كثيراً منهم في مناهجهم ، ودعوتهم إلى مراجعة ذلك في ضوء العقل والنقل ، فلم أجد من أكثرهم إلا إصراراً على أسلوبهم ، على الرغم من إظهار كثير منهم القناعة أثناء الحوار !!

وقد كان إصرار أمثال هؤلاء على مواقفهم وأساليبهم سبباً مباشراً في كتابة كتابي (( جهاد الكلمة : معالمه وضوابطه )) .

وكثيراً ما كنت أعيد مثل هذا الإصرار ، إلى الفتنة بالجماهير، وإقبالهم على مثل هذه الخطب، والتفافهم حول هؤلاء الخطباء … ( أعاذنا الله من الفتن ماظهر منها وما بطن ) .

وكنت أقول في نفسي : أيريد هؤلاء الخطباء النصيحة أم الفضيحة ؟! أيريدون الإصلاح أم مجرد النقد والكلام ؟! أيريدون التغيير أم التعيير ؟!

هل وصل بعضهم إلى مايريدون من إصلاح عن طريق سلوك هذه السبل ؟ هل أزالوا المنكرات التي نقدوا أصحابها على منابرهم ، فاستجاب لهم الوزراء والحكام ؟ أم أنهم كسبوا عداوتهم وبغضهم وإصرارهم على منكراتهم ، واكتفوا بتفريغ مافي نفوسهم من آلام ، راضين برضى الجماهير عنهم ، وإعجابهم بهم !!؟

أم سَرْهم تأليب الناس وتهييجهم ، وإلهاب عواطف من لايملك من الأمر شيئا ، فزرعوا في نفوس الناس الحقد والبغض ، ووصلوا بكثير منهم إلى اليأس والإحباط !!

وكثيرا ماكنت أتساءل :

هل من الحكمة نصيحة الوالد أمام أولاده ؟ ونصيحة المسؤول أمام المسؤول عنهم ؟ ونصيحة الحاكم أمام شعبه ؟!

وهل يفتح هذا الأسلوب العقول أم يقفلها ، وهل يزكي النفوس أم يفسدها ؟ وهل يقرب القلوب أم يبعدها ؟!

يَحتج بعضهم بقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن خاطبه وهو على منبره : اتق الله ياعمر ، فقال (( لاخير فيكم إذا لم تقولوها ، ولاخير فينا إذا لم نسمعها )) .

وهل كل الناس كعمر ؟ وهل يسوى في أسلوب النصيحة بين مسؤول أو حاكم يطلب النصيحة ويثيب عليها ، وبين مسؤول أو حاكم يكرهها ويهرب منها ؟! وهل يسوى في الأسلوب بين مخاطبة الحاضر والغائب ، والعالم والجاهل ، والمقبل والمدبر ؟!!

هل كان صلى الله عليه وسلم يسمي الناس بأسمائهم، ويخاطبهم بأوصافهم ، عندما كان يوجه النصيحة من على منبره ؟ أم كان يقول : ( ما بال أقوام يفعلون كذا ، أو يقولون كذا … )؟!

وقد كان السلف الصالح إذا أرادوا نصيحة أحد ، وعظوه سراً ، حتى قال بعضهم : ( من وعظ أخاه سراً فيما بينه وبينه ، فهي نصيحة ، ومن وعظه على رؤوس الناس فقد وبخه )).

ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويُعيّر ) .

انظر ( جامع العلوم الحكم ) لابن عبد البر صـ 77 .

و جاء في حديث الترمذي : ( من أهان السلطان أهانه الله ) وقال عنه : حديث حسن رقم (2225) .

وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن أمر السلطان بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، فقال : ( إن كنت فاعلا ولا بد ، ففيما بينك وبينه ) . انظر ( جامع العلوم والحكم ) صـ 77 .

ويقول الامام ابن تيمة رحمه الله : ( وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان ، يذنب الرجل أو الطائفة ، ويسكت آخرون عن الأمرو النهي ، فيكون ذلك ذنبهم ، وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه ، فيكون ذلك من ذنوبهم ، فيحصل التفرق والاختلاف والشر ، وهذا من أعظم الفتن والشر قديما وحديثا ، إذ الإنسان ظلوم جهول ، والظلم والجهل أنواع ، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع ، وظلم كل من الثاني والثالث من نوع آخر .

ومن تدبر الفتن الواقعة ، رأى سببها ذلك ، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ، ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ، ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا أصلها ؟! الفتاوى ( 28 \ 142-143 ) .

وأختم حديثي هذا ، بموقف أقدره لأخينا وشيخنا : الشيخ عبدالله علوان – رحمه الله تعالى – خطيب حلب في زَمنه ، الذي كان في معظم حياته يمثل المنهج الذي نقدته في الخطابة ، فالتف حوله الشباب ، ومنع عن الخطابة بسبب ذلك مرات ومرات …

فلما تقدم به العمر ، وقام بمراجعة أسلوبه ، أثناء مرضه ، بعيدا عن منبره وبلده ، توصل إلى تخطئة هذا الأسلوب ، وصَرَحَ لي بذلك في المسجد الحرام بمكة المكرمة قبل وفاته بشهور ، وأشار إلى ذلك في آخر كتاب كتبه للشباب بعنوان ( الشباب المسلم في مواجهة التحديات المعاصرة ) ودعا الناس إلى التعقل وعدم التعجل …

فهل يراجع خطباؤنا مواقفهم ، فيصححوا من أساليبهم ، ويعودوا إلى الحكمة والبصيرة في دعوتهم ، ويحكموا علمهم وقواعدهم في ذلك ، ويتذكروا أنهم دعاة لاقضاة ، قبل أن نصل إلى اليوم الذي حذرنا منه صلى الله عليه وسلم ، فيكثر فيه خطباؤنا ، ويقل فيه علماؤنا ، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم …

كتبه : د: محمد أبو الفتح البيانوني

حلب : في 25 \ رمضان \ 1432 هـ 25\ 8 \ 2011 م