أزمتنا أزمة تربوية منهجية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
فإن الأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى التربية والتزكية، كعنصر من عناصر الدعوة، أكثر من حاجتها إلى عُنصري : التبليغ والتعليم …
فقد كثرت وسائل تبليغ الدعوة اليوم وتنوعت، حتى بلغت أقاصي العالم، كما كثرت المدارس والمعاهد والجامعات، وأصبح لدى الأمة آلاف مؤلفة من المثقفين والمتعلمين في مختلف العلوم العامة والشرعية …
وذلك في وقت قلت فيه المحاضن التربوية التي شاعت عند أسلافنا …
من هنا: كانت أزمتنا اليوم أزمة تربوية منهجية، أكثر منها أزمة علمية …
ولعل من أهم الأسباب المكونة لهذه الأزمة، غياب علم المنهج وعلم الدعوة الذي يُعنى بدراسة المنهج والتربية عليه …
فأصبح لدينا علماء متخصصون في مختلف العلوم الشرعية: عقدية كانت أو أصولية، أو فقهية، أو قرآنية ، أوحديثية … إلا أنك قلَ أن تجد في هؤلاء العلماء من يتقن علم المنهج، أو يُعنى بالتربية على المنهج الصحيح الذي تفتقر إليه جميع العلوم الشرعية، في تعلمها، ونشرها، وتطبيقها .!!
ولنضرب على ذلك مثلين ، يكشفان لنا عمق هذه الأزمة وأبعادها في الأمة، أحدهما على نطاق الأسرة، والآخر على نطاق المجتمع والدولة، وما أكثر مثل هذه الأمثلة !!
أما المثال الأول: على مستوى الأسرة :
فكثيرا ما تثَقفَ أبناؤنا الثقافة الإسلامية ، وتخصصوا في مختلف العلوم الشرعية، وعرفوا الحلال من الحرام، والمعروف من المنكر ..إلا أن قليلا منهم من درس علم الدعوة، ومنهج الإصلاح، وأسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تلقى منهجا تربويا متوازنا يحقق الصلاح والإصلاح !!
فإذا واجه الشاب فسادا في أسرته، ورأى منكرات تسود في بيته، تخبط في أسلوب علاج هذا الفساد، وكيفية إنكار هذه المنكرات، وتصرف تصرفات قد تنـفرالأبوين والإخوة والأخوات، أو يضطر إلى العزلة عنهم، ويبتعد عن معايشتهم وخلطتهم ..!!
وقد يدفعه جهله بالمنهج الصحيح، والأسلوب الحكيم، إلى تصديع بناء الأسرة، وإضاعة أفرادها، وقد يخرج عن القيود والضوابط الشرعية في سبيل الإصلاح، وتراه في النتيجة، لامنكرا أزال، ولا فسادا أصلح !!
ولو عرف هذا الشاب :أن المسؤولية الأولى والكبرى في إصلاح أوضاع الأسرة، تقع على عاتق الأبوين، وأن واجب الأبناء ومسؤوليتهم تكمن في اجتهادهم في تقديم النصيحة المستمرة، والتذكير بالحسنى، وبالحوار البناء، وبالصبر الجميل …
ولو فقه الأبناء أنهم بهذا برؤوا ذمتهم أمام الله عزوجل وأمام الناس، لما لجؤوا إلى بعض التصرفات الخاطئة مع آبائهم وأمهاتهم، أو مع إخوانهم وأخواتهم، التي تجعل منهم منفرين معسرين، مفسدين غير مصلحين ..!!
وإن في قصة أبناء عمرو بن الجموح رضي الله عنهم جميعا – درسا بليغا في منهج الإصلاح داخل الأسرة، التي كان فيها صنم يعبد من دون الله عز وجل .
أما المثال الثاني: على مستوى المجتمع والدولة :
فكثيرا ما درس أبناؤنا الأحكام الشرعية العامة والخاصة،وأصبحوا يميزون بين الخير والشر، والحق والباطل… إلا أن قليلا منهم من درس منهج الإصلاح في المجتمع ، وعرف أسلوب دعوة المسؤولين والحكام، فخَبطوا في ذلك خبط عشواء، دون أن يرجعوا في ذلك إلى علمائهم وعقلائهم، أهل الحل والعقد فيهم !!
ولو عرف هؤلاء الشباب : أن المسؤولية الأولى والكبرى في إصلاح المجتمع والدولة، تقع على عاتق العلماء والعقلاء، أهل الحل والعقد في الأمة، وعلموا أن واجبهم في ذلك تقديم النصيحة المستمرة، واقتراح الآليات العملية لعلمائهم وعقلائهم، وتَحلوا بأسلوب الموعظة الحسنة، والحوار البناء، والصبر الجميل …
ولو فقه هؤلاء الشباب أنهم بهذا تبرأ ذمتهم أمام الله، وأمام الناس، لما وقعوا في الأخطاء، وتصرفوا التصرفات الخاطئة التي يلجأ إليها بعضهم، فيُسيؤون من حيث يريدون الإصلاح، ويفسدون وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا …
وما أكثر ما تكررت هذه الظاهرة في الساحة الإسلامية والعربية !!
من هنا : كانت الحاجة كبيرة وملحة إلى دراسة المنهج وعلم الدعوة، ليكون الجميع على بصيرة من أمر دعوتهم، فينضبطون بالمنهج الذي رسمه الله عز وجل، ووضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينطلقون في ذلك إستجابة لعواطفهم وآرائهم، مقلدين في ذلك شرقا أو غربا …
يقول تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ..)
ويقول أيضا : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ..).(الأنعام: 153).
ولعل في موقف الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز من ولده عبد الملك – رحمهما الله – درسا بليغا في المنهج الإصلاحي، الذي استند فيه على المنهج القرآني، وعالج فيه الاندفاع العاطفي، والحماس الشبابي عند ولده.
ولا عجب بعد ذلك أن يختلف الناس في سبل الإصلاح، وأن يخبط فيه بعضهم خبط عشواء !!
كما لا عجب أيضا: أن تختلف وتتعارض اجتهادات بعض علماء الشريعة في اختيار المنهج والأسلوب …
فإنه لا نجاة ولا نجاح، إلا في الرجوع إلى المنهج الرباني والنبوي عامة، وفي سبيل الإصلاح خاصة، حيث أكرمنا الله به في القرآن الكريم، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة، ووضح معالمه على مدى الأزمان، فحدثنا عما سيأتي في آخر الزمان، وعما ستبتلى به الأمة على مدى الأيام، وعلى ما يجب علينا تجاه ذلك … فتركنا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك … جزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ووفقنا لاتباع سنته ونهجه، وحفظنا جميعا من الزللِ في القول والعمل …
والحمد لله رب العالمين …
ملاحظة : المقالة عبارة عن ملخص من درس عام للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني، في فقه الدعوة، بجامع الإمام أبي حنيفة النعمان في حلب ، مساء الخميس 17 شوال\1432هـ .. 15\ 9\ 2011 م .