الدعوة ضرورة إنسانية
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه المبين (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله…)/110/آل عمران.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي خاطبه ربه سبحانه بقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)/28/سبأ.
ورضي الله عن آل بيته الطيبين الطاهرين، وعن صحابته الأكرمين أجمعين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعـد:
فإن عنوان البحث المطلوب (الدعوة ضرورةٌ إنسانية) يفرض على الباحث والسامع حكماً مبتدءاً، لا بد للباحث قبل الخوض في الكتابة فيه، من وقفة علمية للتأكد من مصداقية هذا الحكم، والكشف عن حيثياته ومقتضياته…
وإن المنهج العلمي السليم يتطلب من الباحث في مثل هذا المقام الإجابة عن عدد من التساؤلات، وإن من هذه التساؤلات:
أـ لِمَ كانت الدعوة إلى الله ضرورةٌ إنسانية؟
ب ـ ما الدليل على مصداقية هذا الحكم؟
ج ـ ما مظاهر هذه الضرورة الإنسانية في الدعوة إلى الله؟
د ـ ما وسائل تحقيق هذه الضرورة؟
هـ ـ مدى تحقق هذه الضرورة الإنسانية في الواقع؟
من هنا: أجد نفسي مُلزماً بالإجابة عن جميع هذه التساؤلات بإجابات علمية مُستندة إلى أدلة عقلية ونقلية، حتى لا تكون الكتابة في هذا الموضوع المهم مقالةً أدبية، أو خطبةً ارتجالية، أو إجابة عاطفية…
أـ لِمَ كانت الدعوة إلى الله ضرورة إنسانية؟
إذا كانت كلمة العلماء والباحثين في موضوعات الدعوة الإسلامية مجتمعةً على أن الدعوة إلى الله فريضةٌ شرعية ـ وإن اختلفت كلمتهم في تحديد نوعية هذه الفرضية، بين فرضية العين، وفرضية الكفاية ـ وذلك بناءً على دلالات النصوص الشرعية المتنوعة في الكتاب والسنة بمنطوقها ومفهومها..
فإن من مقتضيات هذا الحكم الشرعي المتفق عليه، أن تكون الدعوة إلى الله ضرورةً إنسانية.
ذلك لأن الله عزوجل لا يفرض على عباده أمراً إلا لكونه يحقق للناس ضرورةً من الضرورات، أو يسدُّ لهم حاجةً من حاجاتهم الأساسية…
ولا تُتَصَوّرُ ضرورةٌ للإنسان أو حاجةٌ أكبر من ضرورة تحقيق سعادته في الدنيا والآخرة…
وإن من المتفق عليه عند العلماء: أن من أبرز مقاصد الشريعة الإسلامية حِفْظَ الضروريات الخمس الكبرى للإنسان، المتمثلة بحفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. وفي هذا يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ:
))قد اتفقت الأمة ، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل((
ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوةً لهذه الشريعة الربانية المحققة لتلك المقاصد، والكافلة لسعادة الإنسان في دنياه وأخراه، كانت هذه الدعوة ضرورةً إنسانية.
قال تعالى: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم)/14-15/المائدة.
ب ـ ما الدليل على أن الدعوة ضرورة إنسانية؟
تتضافر الأدلة العقلية والنقلية على أن الدعوة إلى الله ضرورة إنسانية، فمن ذلك:
- توقّفُ سعادة المرء في الدنيا والآخرة على الاهتداء بهدي الله، فقد أناط الله سبحانه سعادة الإنسان في الدنيا ونجاته في الآخرة بالاهتداء بهديه، وبيّن أن شقاءه في الدنيا، وخسرانه في الآخرة منوطٌ بإعراضه عن هذا الهدي قال تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى، فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري، فإن له معيشةً ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)/123-127/طه.
ولا سبيل إلى الاهتداء بهدي الله إلا عن طريق الدعوة إلى الله، سواءٌ بواسطة رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، أو بواسطة الدعاة من بعدهم… - توجيه الدعوة إلى الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأديانهم…
يقول الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)/107/الأنبياء.
ويقول أيضاً: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيرا…)/45-47/الأحزاب.
ويقول أيضاً: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا…)/158/الأعراف.
وقد تكرر ذكر (الناس) في القرآن الكريم أكثر من مئة مرة، ووجه فيه الخطاب الدعوي إليهم أكثر من أربعين مرة . كما تكرر ذلك في الأحاديث النبوية الشريفة كثيراً .
وكل ذلك يؤكد حاجة الإنسان كل إنسان إلى هذه الدعوة، لأنها دعوة الخالق لعباده، وما أحوج العباد إلى التعرف على خالقهم، والاهتداء بهديه…! - سعي الدعوة إلى تحقيق متطلبات الإنسان المادية والروحية، فهي دعوة إلى الحرية، والعدالة، والمساواة، والإخاء… كما هي دعوة لإعطاء كل ذي حق حقه… كما سيظهر لنا عند البحث عن مظاهر هذه الضرورة مستقبلاً إن شاء الله.
ج ـ ما مظاهر الضرورة الإنسانية في الدعوة إلى الله؟
تتجلى مظاهر الضرورة الإنسانية في الدعوة إلى الله من حيثيات متعددة، منها: - من تعريف الدعوة إلى الله، والتعرّف على وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام:
فقد عُرِّفت الدعوة الإسلامية بتعريفات عديدة، وقد ذهبتُ إلى تعريفها بأنها: (تبليغ الإسلام للناس، وتعليمُه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة(
فكل هذه الأعمال التي اشتمل عليها التعريف تعكس لنا مدى اضطرار الناس لهذه الدعوة، ومدى احتياجهم إليها…
وإلا فكيف يتعرف الناس على هدي الله الذي أنيطت به سعادتهم في الدنيا والآخرة دون أن يبلغهم هذا الهدي، ويتعلمون أحكامه وقوانينه، ودون أن يُسعى إلى تطبيقه في حياتهم…!
كما صرح القرآن الكريم ببيان وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً فقال سبحانه: (رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيما)/165/النساء.
وقال سبحانه: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)/2/الجمعة.
فلولا هذه الضرورة الإنسانية، لما أرسل الله عزوجل جميع الأنبياء والرسل على كثرتهم، فتحملوا في سبيل دعوته ما تحملوا، من تكذيب، وتعذيب، وقتل…
قال تعالى: (كان الناس أمةً واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزلَ معهم الكتاب الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيانات بغياً بينهم، فهدى الله الذين آمنوا فيما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)/213/البقرة.
- من التعرف على مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها:
وقد سبق أن أشرت في المقدمة إلى أن من أبرز مقاصد الشريعة الإسلامية خاصة، والشرائع السماوية عامة، حفظ الضروريات الخمس الكبرى للإنسان، المتمثلة بحفظ دينه، ونفسه، ونسله وعقله، وماله…
فقد سعت الشريعة الإسلامية إلى تحقيق هذه الضروريات والحفاظ عليها من جهة الوجود، ومن جهة العَدَم، ليعيش الإنسان سعيداً، مطمئناً على هذه الضروريات، التي لو اختل شيء منها اختّلت حياته، وفقد سعادته في الدنيا والآخرة.
وقد أسهبتْ كتب أصول الفقه وكتب المقاصد في بيان أوجه هذا الحفظ من حيث الوجود والعدم، بما لا يتسع المجال لذكرهِ في هذا المقام .
وقد كانت هذه المقاصد الشرعية واضحةً جليةً لدى الجيل الأول من المسلمين، حتى عبر عنها وأشار إليها إشارة صريحة الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه، عندما سأله (رستم) ماذا جاء بكم؟
فأجابه بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام(
- ومن مناهج الدعوة وأساليبها وركائزها الفطرية:
يقول تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن…)/125/النحل.
ويقول أيضاً: (وقولوا للناس حسنا…)/83/البقرة.
ومن هنا: كانت الفطريةُ أولى خصائص المناهج والأساليب الدعوية، لانسجامها مع الفطرة الإنسانية، فإن منها ما يلامس قلب الإنسان ويحرك عواطفه، ويعد ركيزةً من ركائز المنهج العاطفي، كأسلوب الموعظة الحسنة بجميع أشكالها.
ومنها ما يلامس عقل الإنسان، ويحرك فكره، ويدعوه إلى التدبر والاعتبار، ويعد ركيزة من ركائز المنهج العقلي، كأسلوب المجادلة بالحسنى، ومنها ما يلامس الحس البشري، ويدعو الإنسان إلى المحاكاة والمشابهة، ويعتمد على المشاهدات والتجارب، ويعد ركيزةً من ركائز المنهج الحسي، كأسلوب القدوة الحسنة، ولفت الأنظار إلى المحسوسات والمشاهدات…
فهذه المناهج والأساليب جميعها تلبي متطلبات الفطرة الإنسانية من جميع جوانبها، لأنها من وضع الخالق العليم بخلقه، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)/14/الملك .
- ومن دعوة الشريعة إلى تحقيق المبادئ الإسلامية الأساسية:
فقد دعت الشريعة الإسلامية أول ما دعت إليه: الدعوة إلى إحسان العلاقات الإنسانية الثلاث، علاقة الإنسان مع خالقه، وعلاقته مع نفسه، وعلاقته مع الناس من حوله…
وقد اشتملت عليها وصية الرسول صلى الله عليه وسلم البليغة الجامعة، حيث قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن(
فدعت في جانب إحسان العلاقة مع الله: إلى الإيمان بالله بأركانه الستة، كما دعت إلى العمل بأركان الإسلام الخمسة، وإلى الإحسان الذي بينه حديث جبريل، وأطلق عليها مجتمعة اسم الدين، فقال صلى الله عليه وسلم (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم(
كما دعت في جانب إحسان العلاقة مع النفس: إلى إعطاء النفس البشرية حقوقها كاملة، سواء منها الحقوق المادية والمعنوية، فقال تعالى:
)ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها…)/7-10/الشمس.
وجاء في الحديث الشريف: (… ولنفسك عليك حقا(
كما دعت إلى الاهتمام بواجباتها، وأداء وظائفها،لأن النفس البشرية مخلوقٌ من مخلوقات الله عز وجل، لها حقوقها وعليها واجباتها، ولا بد من توازن بين الحقوق والواجبات، وقد جاء في حديث البخاري السابق بعد ذكر الحقوق المتنوعة (فأعط كل ذي حق حقه(
وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم صراحةً اختلال التوازن بين حقوق النفس البشرية وواجباتها إنكاراً شديداً، حيث جاء في الحديث المتفق عليه: (جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا، كأنهم تقالّوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم! فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا، فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر، وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، من رغب عن سنتي فليس مني(
كما دعت في إحسان العلاقة مع الناس عامة: إلى إحسان الخلق معهم، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (وخالق الناس بخلق حسن) ولم يخص ذلك بالإنسان المسلم.
وقال في وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن (أحسن خُلُقَكَ للناس يا معاذ بن جبل(
وربط صلى الله عليه وسلم بين كمال إيمان الإنسان وبين حسن خلقه فقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً(
كما وجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم إلى الاهتمام بحسن الخلق، فقال سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين)/159/آل عمران.
- ومن دعوتها إلى تحقيق متطلبات الإنسان الأساسية وحقوقه:
حيث أمرت الشريعة الإسلامية بتحقيق الحرية والعدالة والمساواة بين الناس، وحفظت للإنسان كرامته، وشرفَ مكانته…
فحررت الإنسان من العبودية لغير الله، فقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: أن لا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله…)/64/آل عمران.
كما حررت عقله من الخرافات والضلالات، فبادرت بتقديم الحقائق الكبرى له، ولم تتركها لاجتهاده القاصر.
فوضحت له أركان الإيمان الستة، وحقيقة خلق الإنسان، وحقيقة الكون الظاهر، وحقيقة الكون الخفي المحيط به…
ولولا هذه المبادرة ببيان هذه الحقائق، لضلّ الإنسان في تصورها وفهمها ضلالاً كبيرا ـ كما حدث في فترات الجاهلية القديمة ـ
كما دعت الشريعة إلى تحقيق العدالة بين الناس فقال سبحانه: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)/90/النحل.
وقال أيضاً:
)ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى…)/8/المائدة.
كما دعت إلى المساواة بين الناس والتعارف فيما بينهم، فقال سبحانه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)/13/الحجرات.
وجاء في الحديث الشريف: (إن ربكم واحد، وأباكم واحد، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى(
كما أعلنت الدعوة كرامة الإنسان، وشرفت مكانته في الوجود، وسخر الله له جميع ما في الكون…
فقال تعالى:
)ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)/70/الإسراء.
وقال تعالى:
الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً، فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار)/32-34/إبراهيم.
كما جعل الله الإنسانَ خليفةً في الأرض، واستعمره فيها، فقال سبحانه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون ـ إلى أن قال ـ: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، أبى واستكبر وكان من الكافرين)/30-34/البقرة.
وميزه على غيره من المخلوقات، فوهبه العقل، وحمّلهُ الأمانة التي أشفق من حملها السموات والأرض والجبال، فقال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولا)/72/الأحزاب.
وجاءت خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مؤكدة على حقوق الإنسان، وتحقيق متطلباته… فقال فيها صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلّغتُ؟ قالوا: بلّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يومٌ حرام، ثم قال: أي شهرٍ هذا؟ قالوا: شهر حرام، ثم قال: أي بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرام، قال: فإن الله قد حرّم بينكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أبلّغت؟ قالوا: بَلَّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ليُبلّغ الشاهدُ الغائب(
إلى غير ذلك من مظاهر تؤكد هذه الضرورة الإنسانية، وتُجليها في أسمى صورها وأشكالها…
د ـ ما وسائل تحقيق هذه الضرورة:
لما كانت الدعوة إلى الله ضرورة إنسانية، كان لا بد لتحقيق هذه الضرورة من اتخاذ الوسائل التالية:
- إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام:
فلم يترك الله عزوجل الناس سدى، يخبطون في حياتهم خبط عشواء، وإنما أرسل إليهم الرسل هداة مبشرين ومنذرين، ليبلغوهم رسالة ربهم، قال تعالى: (إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب والأسباط، وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان، وآتينا داود زبورا، ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلاً لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما، رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيما)/163-165/النساء.
وقال أيضاً:
) ثم أرسلنا رسلنا تترا..)/44/المؤمنون.
وقال أيضاً:
)إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيرا، وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذير)/24/فاطر. - إنزال الكتب والصحف:
يقول تعالى: (وإن يكذبوك، فقد كذب الذين قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر، وبالكتاب المنير)/25/فاطر.
ويقول: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)/1/الفرقان.
ويقول سبحانه: (الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم، نزّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان…)/1-4/آل عمران.
ويقول سبحانه:
)إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء…)/44/المائدة.
وقال تعالى: (كان الناس أمةً واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)/213/البقرة. - تعميم مسؤولية الدعوة على كل مسلم:
فقد عمم الله عزوجل حكم الدعوة على كل مسلم، ليستمر أمرها ويعم خيرها بعد ختم الرسل والرسالات برسولنا صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:
(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني..)/108/يوسف.
ومن هنا: كانت الدعوة إلى الله فريضة شرعية على كل مسلم بالقدر الذي يحسنه.
وكانت الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس، أمةً داعية (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله…)/110/آل عمران. - إقامة البلاغ المبين، وتفصيل الآيات لتستبين سبيل المجرمين:
ومن وسائل تحقيق هذه الضرورة، إقامة البلاغ المبين، فقد أمر الله رسله عليهم الصلاة والسلام بتبليغ دعوته للناس، فكان التبليغ أول عمل من أعمال الرسل جميعاً، فقال سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، فيضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)/4/إبراهيم.
وقال: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم…)/28/الجن.
وقال في وصفهم: (الذين يبلغون رسالات الله، ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، وكفى بالله حسيبا)/39/الأحزاب.
كما جاء وصف البلاغ بالمبين في كثير من آيات الذكر الحكيم، فجاء في سورة النحل: (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين)/35/النحل.
وجاء فيها: (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين)/82/النحل.
وذلك لتقام به الحجة، فلا تقوم الحجة على الناس بالبلاغ إلا إذا كان مبيناً مفصلاً واضحاً لهم، وإلا فقد يلتبس الحق عليهم بالباطل، فلا تظهر لهم سبيل المؤمنين، ولا تتميز لدى كثير منهم سبيل المجرمين، قال تعالى: (وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين)/55/الأنعام. - إيجادُ القدوة العملية الحسنة على مستوى الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة:
فالإنسان مفطور على حب التقليد للآخرين، ومحاكاة ما يستحسنه فيهم، ولذا اختار الله لعبادة المؤمنين قدوةً حسنةً مطلقة، وحصرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا..)/21/الأحزاب.
كما طلب منه أن يتخذ قدوة فيمن سبقه من الأنبياء والرسل الكرام فقال سبحانه بعد ذكر نعمة الله على عباده بإرسال الرسل: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، فإن يكفر بها هؤلاء، فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده..)/89-90/الأنعام.
ومن هنا: جاء الترغيب في أن يجعل المسلم من نفسه قدوة حسنةً لغيره، كما جاء الترهيب من أن يكون المسلم أسوة سيئة لغيره، ففي الحديث الشريف: (من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن يَنقُصَ من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً، كان عليه وزرها، ووزر مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) .
كما جاء الإنكار شديداً على من خالف عمله قوله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)/2-3/الصف.
وما أحوج الإنسانية اليوم إلى القدوة الحسنة على جميع المستويات وفي مختلف الميادين!
ما أحوجها إلى الفرد الأسوة، وإلى الأسرة الأسوة، وإلى المجتمع الأسوة، وإلى الدولة الأسوة.!!
إلى غير ذلك من وسائل تحقق للناس هذه الضرورة، وتُلبي متطلباتهم، وتقام بها الحجة عليهم…
هـ ـ مدى تحقق هذه الضرورة الإنسانية في الواقع؟
لقد تحققت هذه الضرورة في أيام الصدر الأول من تاريخ الإسلام، وذلك ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أنقذت الناس من الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، فقال سبحانه:
)هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم ا لكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين..)/2/الجمعة.
كما تحققت بسيرة الرعيل الأول من الصحابة الكرام الذي تابعوا مهمة النبوة، وبذلوا وسعهم في تحقيقها، فخرجوا إلى الناس بإيمانهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر… فكانوا القدوة العملية للناس، يتمثلون هدي الله في نفوسهم، ويبثونه في سلوكهم وتحركهم، فعمموا خير هذا الإسلام، ونشروا هديه في العالمين، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا…
ثم أتى على المسلمين حينٌ من الدهر، غفلوا فيه عن مهمتهم، وقصروا في القيام بوظيفتهم، فجهل كثير من الناس هدي الإسلام، وانتشرت فيهم الضلالات من جديد…
وتطلعت البشرية إلى تلك القدوة العملية الحسنة، فلم يجدوها إلا ضعيفة نسبية في الأفراد والمجتمعات، فتشوهت لديهم صورة الإسلام المشرقة، وظنها كثير من الناس في الصورة القائمة في المسلمين ومجتمعاتهم، فزهدوا فيها وأعرضوا عنها… وتحمل المسلمون ـ إلا من رحم الله ـ وزر هذه النتيجة، حيث غفل معظمهم عن وظيفتهم وواجبهم في الدعوة إلى الله، فلم يقوموا بواجب البلاغ المبين الذي كلفوا به، ولم يقدموا القدوة العملية الحسنة للناس،فتشكل بذلك فراغٌ خطير ملأه أهل الباطل ودعاته بباطلهم، وتوزع الناس يمنةً ويسرة باحثين عن تحقيق تلك الضرورة الإنسانية، فلم يحظوا بها…
فخبطوا في حياتهم خبط عشواء، متقلبين من منهج إلى منهج، ومن ضياعٍ إلى ضياع…
منتظرين ذلك المنقذ المتمثل في دعوة الله عزوجل التي تخرج الناس من الظلام إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومتطلعين إلى وعد الله الصادق بالاستخلاف والتمكين…
)وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئا…)/55/النور.
إلا أن سنة الله عزوجل في خلقه ـ ولن تجد لسنته تبديلا ـ ربطت زهوقَ الباطل وزواله بمجيء الحق وحركته، لا بمجرد وجوده…
فقال تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق…)/18/الأنبياء.
فيوم يصحو المسلمون من غفلتهم، ويعودوا إلى خصيصتهم الدعوية، فيكونوا خير أمة أخرجت للناس، ويقوموا بواجب البلاغ المبين، الذي هيأ الله عزوجل اليوم لتحقيقه من الوسائل ما لم يتهيأ لدعاة الرعيل الأول، فهيأ للمسلمين في عصر العولمة والمعلوماتية، من التقنيات الحديثة، والوسائل المتطورة ما يسهل عليهم مهمتهم، ويعينهم على أداء وظيفتهم في تفعيل خصيصة العالمية كبرى خصائص دعوتهم، ما تقوم به الحجة عليهم أولاً، وعلى الناس من حولهم ثانياً…
فيوم يقوم المسلمون بهذا الواجب الشرعي، لتحقيق هذه الضرورة الإنسانية، كل بحسب إمكاناته وقدراته، وبحسب ميدانه وموقعه، تبرأ ذمتهم، وتقوم الحجة على غيرهم، وتَسلَمُ لهم خصيصة الخيرية التي منحهم الله إياها…
أسأل الله عزوجل أن يجعلنا من الذين يحملون الأمانة، ويبلغون الرسالة، فيحسنون في حملها وأدائها على بصيرة، كما أراد الله، ويكونون قدوة حسنة للناس أجمعين.
والحمـد لله رب العـالميـن
كتبهـــا د. محمد أبو الفتح البيانوني
7/جمادى الآخرة/ 1432هـ
10/5/2011م
حلب ـ سورية