المنهج العلمي الشرعي في معالجة الأزمات
بسم الله الرحمن الرحيم
1- يقول الله عزوجل: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ).[النساء:83].
2- في هذه الآية إنكار صريح على إذاعة وإشاعة أخبار الأمن أو الخوف في الأمة، فقد اعتاد الناس إشاعة الأخبار التي يرضونها أو توافق هواهم ورغباتهم، كوسيلة من وسائل التوصل إلى غاياتهم، غافلين عن خطر تلك الإذاعة للإشاعات على مجرى الأمور.
3- وفي هذه الآية: أمرٌ صريح بوجوب رد مثل هذه الأخبار والإشاعات إلى أولي المر وأولوا الأمر هنا يراد بهم حصراً الأمراء والعلماء. لأنهم الأقدر بحسب موقعهم وإمكاناتهم على تفهم الأمور وتبصر مآلاتها وآثارها السلبية أو الإيجابية.
4- وفي هذه الآية أيضاً: تسمية الله عزوجل لما يتوصل إليه أولو الأمر (علماً) مع أنه (ظنٌ غالب) فيجب العمل به، لأن الشارع يقيم الظن الغالب مقام العلم واليقين في وجوب العمل به، كما جاء في قوله تعالى: (… فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ …).[الممتحنة: 10، 11]، فأطلق على نتيجة الامتحان الظنية؛ وصف العلم، لوجوب الأخذ به، خلافاً للظن الضعيف الذي لا يغني عن الحق شيئاً.
5- وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى فضل الله عزوجل على عباده ببيان هذا المنهج، الذي لولا الأخذ به، لتَّبَعَ الناس الشيطان والأهواء.
6- ويمكن تعريف أولي الأمر في هذه الآية بما يسمى في اصطلاح العلماء (أهل الحل والعقد في الأمة) الذين يُرجع إليهم في الملمات والشدائد، وهم (مجموعة العلماء والعقلاء في الأمة) التي تجمع كبار القوم من فقهاء ووجهاء وخبراء في مختلف مجالات الحياة). والذين تجب طاعتهم، وينوبون عن الإمام المسلم العادل أو نائبه حال غيابه، والذين يعقدون للإمام البيعة عند وجوده… كما هو معروف في كتب السياسة الشرعية.
7- وأشارت النصوص الشرعية إلى أن ترك هذا المنهج السليم في معالجة القضايا العامة، ومواجهة الأزمات، يُعدُ مظهراً من مظاهر الفتنة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ينطق (الرويبضة) في أمر العامة، ويتولى الشباب (أحداثُ الأسنان) معالجة تلك الأوضاع بعيدين عن الرجوع إلى أولي الأمر منهم.
8- فقد جاء في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي في آخر الزمان قومٌ حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجوز إيمانهم حناجرهم…).(انظر رقم5057 – ورقم 3611 – والفتح 9/99).
9- كما جاء في صحيح الجامع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدَّق بها الكاذب، ويكذَّب بها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخوَّن بها الأمين، وينطق بها الرُّويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم بأمر العامة).(رقم 3650).
10- وإذا لم توجد مجموعة أهل الحل والعقد مجتمعةً على مستوى الأمة، لتقوم بهذه المهمات الصعبة المناطة بها، فلتقم مقامه مجموعة العلماء والعقلاء والخبراء على مستوى القطر أو البلدة التي تجري فيها تلك الأمور، إذ (لا يسقُطُ المَيْسور بالمعسور)، (وما لا يدرك كله، لا يترك جله). ولا يجوز بحال من الأحوال ترك مثل هذه القضايا الخطيرة إلى عامة الناس، شباباً أو شيوخاً، فتختلف آراؤهم، ويتشتتُ أفراد الأمة باختلافهم، وتتعمق الفتنة في صفوفهم، وتصبح المعركة بينهم، حيث يُعجب كل ذي رأي برأيه، فيودي بهم الأمر إلى الهلاك.
11- علماً بأن قرار العلماء والحكماء في هذه الأحوال يكون غالباً على أساس الموازنة بين المصالح والمفاسد، أو بين المفاسد والمفاسد، ونادراً ما يكون على أساس بيان حكم ظاهر يتفهمه معظم الناس. ومن هنا حصرَ القرآن الكريم واجب الرد في هذه الموازنات، للوصول إلى القرار الحكيم في مثل تلك المواقف.
12- ولا يَلزَمُ العقلاءَ والحكماءَ بيانُ أساس تلك الموازنات؛ التي قام عليها قرارُهم؛ لعامة الناس، نظراً لما قد يترتب على ذلك من المفاسد، وإنما على العامة الالتزام بقرارهم موضَّحاً كان أو مُبهماً، وعلى الآخرين المخالفين في الرأي التنازل عن رأيهم في مثل هذه القضايا العامة لرأي العقلاء والعلماء، توحيداً للموقف من جهة، ودرءاً للمفاسد المترتبة على ذلك الخلاف من جهة أخرى.
13- وقد جاء في الأحاديث الشريفة التحذير من مثل هذه المهلكات، فقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم بألفاظ متقاربة، قوله صلى الله عليه وسلم: (… حتى إذا رأيتَ شُحاً مُطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مُؤثَرة، وإعجابُ كلِ ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام..).(سنن الترمذي رقم/3060).
14- وإنّ واقع العالم الإسلامي بأحداثه المتكررة، يؤكد وجوب إتباع هذا المنهج، وعدم ترك مثل هذه الأمور الخطيرة للاجتهادات الفردية، فإنه:
ولا سراةَ إذا جُهالهم سادو *** لا يَصلحُ القومُ فوضىَ لا سُراةَ لهم
أسأل الله عزوجل أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُبصّرنا بدعوتنا والواجب علينا، فهو الهادي سواء السبيل، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).[الأنعام: 153].
والحمد لله رب العالمين
7 جمادى الآخرة 1432 هـ
10 – 5 – 2011 م
كتبه بعد التشاور مع أهل العلم
أ. د. محمد أبو الفتح البيانوني
حلب – سورية