لبيك بحجة حقاً، وتعبداً ورقاً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أله وصحبة وسلم أجمعين..
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ( أفضل الحج: العج والثج )، والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: ذبح الهدي، فكان قول: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك )، شعار الحجاج والمعتمرين، ومبدأ المؤمنين والمتقين، شعار رفعه الرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، وهو سيد المرسلين، وخير العابدين، وأسوة المؤمنين، وكان أحد ألفاظه ( لبيك بحجة حقاً، تعبداً ورقا). ومبدأ حققه أبونا إبراهيم عليه السلام في حياته، وقدوة المتقين، قال تعالى: (قل إن صلاتي و نسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) الأنعام /162/.
وتحقيق العبودية لله عز وجل، إخلاصها له سبحانه، واجب الناس أجمعين، من أجله وجدوا، وبه تميزوا عن غيرهم من المخلوقات، قال تعالى: ( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون..) الذاريات /56/ .
ومن هنا: يأتي الركن الخامس من أركان الإسلام ركناً جامعاً معيناً على تحقيق هذا المقصد العظيم، والمطلب الأساسي، وذلك بما اجتمع فيه من نسك و أعمال، وتضافر فيه من واجبات، وتجلى فيه من شعائر، أيها الأخوة: كل ما في الحج يدور حوا تحقيق تجرد العبد لخالقه، وإخلاصه له سبحانه،، يتجلى هذا في تجرد الحاج عن ثيابه المعتادة أبلغ التجرد، حتى يشمل القميص الداخلي والسراويل،، كما يتجلى في كلمات التلبية شعر الحج كلمة كلمة، وفي مختلف أعمال الحج نسكاً نسكاً.
ففي الحج تجرد عن الأوطان والأعمال الاعتيادية، وتحرك نحو مكان معين، وقيام بأعمال محددة، وفي الحج تجرد العقل عن مناقشة كثير من أعمال المرء، وكثيراً ما تخفى قيها حكمة التشريع، ويغلب عليها طابع الأعمال التعبدية، لتكون الطاعة فيه أكمل والاستجابة فيه أبلغ في الدلالة على العبودية الحقة لله عز وجل، والتجرد له سبحانه وفي الحج خروج عن العادات والألوفات، وتجاوز للتطلعات والأمنيات، وتجرد عن الشهوات والرغبات، لذا تجد الحاج يتحرك ويتنقل من مكان إلى مكان، ومن موقع إلى أخر، حتى يخرج به هذا التحرك في أفضل أيام السنة ( يوم عرفة ) عن دائرة الحرم كله ويبعده عن ذلك البيت العتيق الذي هوت إليه نفسه، وسعى إليه منكل فج عميق، وذلك ليعود إليه مرة أخرى، في أوقات محددة وبنظام دقيق، ومن خلال مناسك وأعمال تعبر عن تلك العبودية، وتشعر بكمالها، فمن مبيت في منى، إلى وقوف وتضرع ودعاء في عرفات، ومن وقوف في مزدلفة إلى مبيت في منى، ومن جمع للحصيات، ورمي للجمرات، إلى ذبح للهدي، وحلق للشعر وطواف بالبيت، إلى غير ذلك من أعمال،،. وهكذا ترى العبد الصادق في الحج طوع سيده، ورهن إشارته، لا تخرجه عن ذلك عادة اعتادها، ولا يحرفه عنه رأي رآه أو هوى يتبعه، يعبر بذلك كله عن أكمل درجات العبودية، وأسمى معانيها، ولطالما غفل عن مثل هذه المعاني، وقصر في أداء مثل هذه الواجبات!
وإلا، فكيف يسلم للمرء بغير هذا وصف العبودية والإسلام، وكيف يستحق هذا اللقب!؟ ولأن تعجب، فعجب انتباه كثير من الحجاج إلى هذه المفارقات والتناقضات في سلوكهم أثناء أداء مناسكهم، وغفلتهم عن ذلك في حياتهم الاعتيادية قبل الحج وبعده، فيعودوا عبيداً للأهواء والشهوات، خاضعين للأعراف والعادات،! فكم من حاج يتيقظ في الحج ن فيتورع ويسأل عن حكم لبس (الساعة اليدوية) في يده خشية الوقوع في إثم أو مخالفة،، ثم يلبس ما حل وحرم في حياته الاعتيادية ؛ فقد يلبس الحرير، ويتحلى بالذهب أو يتناول حراماً، ويقترف مكروها ً، دون شعور بالمخالفة، أو خوف من العقاب؟! وكم من حاج تصل به اليقظة إلى حد الحشية من سقوط شعرة من رأسه في نوم، أو عند اغتسال، أو يحذر من كسر اظفر أو مس طيب أثناء الإحرام!! ثم تراه يتصرف في شعره وظفره وزينته كما يشاء، غير شاعر بذنب أو مخالفة !؟ وكأن أحكام الشريعة الإسلامية قاصرة على أيام الحج وأحكامه! إن الحاج في حاجة كبرى إلى أن يوقف عند هذه المفارقات والتناقضات، وقفة عملية متأنية، يتدبر فيها حالة، وينقد فيها سلوكه، إنه بحاجة إلى تعميق درس التجرد لله عز وجل،وتحقيق العبودية له، وذلك من خلال ربط وثيق بين (محظورات الإحرام) و(أحكام الإسلام )، وتعريف بين بأنه ما شرعت محظورات الإحرام وأحكام الحج، إلا تدريباً على محظورات الإسلام وأحكام شريعته فليست الأولى إلا وسيلة للوصول إلى الثانية، وقد جاء في الحديث الشريف: (إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله) رواه الترمذي وأبو داود.
إن الحاج في حاجة إلى أن يعيش في حجة قصة أبيه إبراهيم وزوجته عليه السلام الذي أذن ودعاه على الحج، وولد إسماعيل عليه السلام الذي شارك أباه في بنيان هذا البيت، فمن أنفع أن نربط المناسك المشروعة بالأعمال والمواقف المروية عنهما، لتحيا معاني الأسوة في نفس الحاج من خلال ما يسمع ويرى، بل من خلال ما يمارسه من أعمال ويؤديه من مناسك.!
ومن هنا تبرز حكمة الله عز وجل في اختيار هذه البقعة التاريخية المباركة لمثل هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، حيث يربط الماضي بالحاضر، ويوصل الأحفاد بالأجداد فتتجسد العبودية في أكمل معانيها، وأجمل صورها، وأسمى أشكالها، قال تعالى: (إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) البقرة /127/ .وقال أيضا: (وأذن في الناس بالحج يأتونك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج /27/ وهنا يبرز دور الدعاة والمرشدين في الحج، في تحقيق هذه المقاصد، وإحياء تلك الغفلة المعاني، وتوثيق ذلك الترابط بين (أحكام الإحرام) و(أحكام الإسلام) ودفع تلك الغفلة الكبرى الطاغية في حياة كثير من المسلمين عامة، وفي طبقة الحجاج والمقبلين على الله خاصة.
وقد أثبتت التجارب الدعوية، في المواسم المتكررة لشعيرة الحج، كثرة الذين تحولوا في رحلة الحج من الغفلة إلى اليقظة، ومن إدبار إلى إقبال، ومن ضعف إلى قوة، فكانت هذه الرحلة المباركة نقطة تحول، وموسم رجعة وموعد توبة أوبة، وقد تأتي تلك التحولات وليدة يقظة شخصية، أو عبرة عفوية، أو نفخة عابرة يشعر بها الحاج فكيف بها لو كانت من خطة دعوة شاملة، وثمرة برامج ناجحة، يعدها الدعاة لمثل هذه الأيام!؟
أيها المسلمون: بمثل هذه اليقظة من الحجاج، والهمة من الدعاة، تعود للحج بهجته، وتحيا له وظيفته وتتوسع دائرة منافعه المادية والمعنوية التي يشهدها الحجاج كل عام، أسأل الله عز وجل أن يتقبل من الحجاج حجهم، وأن يجعله حجاً مبروراً،وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، فقد جاء في الحديث الشريف المتفق عليه: (والحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة).
والحمد لله رب العالمين..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..