وحدة الأمة المسلمة
الحمد الله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) /92/ الأنبياء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله صحبه أجمعين..
أيه الإخوة والاخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإن وحدة الأمة المسلمة، شعار ترفعه الأجيال المسلمة، جيلاً بعد جيل، ومبدأ يؤكده ركن الحج في كل عام، وواقع يشهده المسلمون في جميع بقاع الأرض، ويعيشه الحجاج في كل منسك من مناسك حجهم. فما كانت استجابة الحجاج المستمرة لنداء أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم عبر التاريخ، ولا طوافهم حول بيت الله عز وجل، ولا وقوفهم في عرفات، وإفاضتهم إلى المزدلفة، ومبيتهم في منى، ورميهم للجمرات في وقت واحد، ولا تلبيتهم المعبرة عن هدف واحد، ومقصد واحد، إلا مظاهر شاهدة على عمق هذه الوحدة في نفوسهم، وصدقها في توجهاتهم وغاياتهم…
وإلا، كيف تلتقي هذه الجموع الحاشدة، عربها و عجمها، وعلى مختلف ألوانها، وتعدد ألسنتها، وتباين أماكنها، وتباين مستوياتها، في انسجام كامل وسرور شامل، لو لا جريان شعور الوحدة الإسلامية في عروقهم، وسريانه في أجزاء أجسادهم!!! إنها أية من آيات الله البينات، ومعجزة من معجزاته الخالدات…
وإذا كحان تنوع الناس إلى ذكر وأنثى واختلاف ألوانهم وألسنتهم. آية من آيات الله العظمى، وصرح بها كلامه، وقررها كتابه. فقال عز وجل (من آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذالك لآيات للعالمين)/22/الروم، فإن تحقيق وحدة الأمة على رغم من هذا التنوع، وذلك التباين، آية أخرى، ومنه كبرى، ومعجزة عظمة، تخضع أمامها النفوس، وتذهل تجاهها العقول!!
أيها الإخوة والأخوات: أن من خلال هذه الآية البينة، وفي ظلال تلك المعجزة الخالدة ، كان المسلمين الأمة واحدة، وكان المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، ولا يشعر أحدهم تجاه أخيه بوحشة ليفرق في الألوان والألسن، والتباين في العادات والأماكن، فترى الأبيض مع الأسود، والعجمي مع العربي، والغني مع الفقير، يتصافحون ويتعانقون، ويتوادون، ويتجالسون، ويأكل بعضهم مع بعض، وينام بعضهم بجوار بعض، ويعين بعضهم بعضاُ في محبة صادقة وعواطف متبادلة، تغمر السعادة نفوسهم، وتشرق الابتسامة في وجوهم. يتزاحمون في كثير من أعمالهم، ولاسيما في طوافهم وسعيهم، وعند إفاضتهم ورميهم، فلا يزيدهم هذا التزاحم إلا تراحماً، وهذه التدافع إلا قرباً..
وهكذا يترجم ركن الحج حقيقة هذه الوحدة، ويجسد أعماله ومناسكه آثارها، وثمراتها، فتبدو جلية واضحة، لا تخفى على ناظر، ولا يجادل فيها مكابر..
ولكن ما بال هذه الوحدة الظاهرة، والآية الباهرة، تضعف في كثير من الحجاج بعد حجهم بل في كثير من المسلمين في شتى بقاعهم!؟ وما بال هذه الواحدة اليوم، تختلف قلوبها، وتتفرق صفوفها، ويسود حياتها التمزق والتفريق، ويشيع فيها النزاع والشقاق!! وما بال هذا الجسد الواحد، تتبلد أحاسيسه، وتضعف مشاعره، فلا يشعر بشعور أجزائه، ولا يؤرقه ألم ألم ببعض أطرافه!
هل سأل كل منا نفسه: عن مدى معرفته بأجزاء هذا الجسد!؟ وهل نسبة ما يعرفه منه أكبر من نسبة ما يجهله عنه! فإن كان تحسسه بالجزء الذي يعرفه ضعيفاً ضئيلا، فكيف به تجاه جزء يجهله، وكأنه مفصول عنه حقيقة !؟ عجباً لأمر هذه الأمة، التي أكرمها الله بالوحدة، وأنعم عليها بهذه النعمة، كيف تغفل عن خصوصياتها ، وتتجاهل نعمة الله عليها!! كيف تغفل هذا بوحدتها، في وقت تداعت فيه الأمم عليها! كيف نشغل وتهتم بالفروق السطحية بينها، وتنسى وتتجاهل الموافقات الكثيرة العميقة بين أفرادها!
أيها الأخوة والأخوات: لابد لنا من وقفة تأمل وتدبر أمام هذه التساؤلات، وتلك التعجبات، ليرى كل منا مكانه من وحدة هذه الأمة، وأثره في تكامل هذا الجسد. هل هو عنصر بناء، وعامل عافية في كيان هذا الجسد، أم أنه معول هدم، وعنصر ضعف فيه!!؟ هل هو عامل توحد وتكامل بين أجزاء هذا الجسد، أم أنه عامل شقاق وتمزيق بين أطرافه!؟ إن كثيراً من أبناء هذه الأمة يقفون بسبب الغفلة عن مثل هذه التساؤلات في صفوف أعدائها من حيث لا يشعرون!! إذ يشكلون بغفلتهم عن واجبهم تجاه تلك الوحدة الربانية ثغرة خطيرة يلج منها أعداؤهم، ويكونون بسبب تلك الغفلة ، أعواناً للحاقدين عليها والطامعين بها!
وقد جاء في الحديث الشريف: (كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، الله لا يؤتى الإسلام من قبلك) كتاب السنة للمروزي /ص8/. إن كلمة يقولها المسلم دون تبين لأبعادها وأثارها، قد تشكل ثغرة في جدار تلك الوحدة، أو تهز لبنة من لبناته! وإن موقفاً غير مسئول يقفه المسلم دون خوف من الله عز وجل ومراقبة له، قد يهدم ركناً من أركان إيمانه، أو يهدد أساساً متن أساس بنيانه! وقد جاء في الحديث الشريف المتفق عليه: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مابين المشرق والمغرب). إن مسألة خلافية قد يثيرها المسلم بين إخوانه في غير حكمة ، كثيراً ما تكون سبب تباعد بين القلوب، وفرقة في الصفوف !
وهكذا قد يصبح الغافل من أبناء هذه الأمة عن نعمة الوحدة الربانية التي أكرمه الله بها ميكروب تفرقه، وفيروس في شقاق في جسدها الواحد ، يمزق من وحدته، ويفتك في صحته…. وقد يفعل ذلك كله، هو يرى نفسه أنه يحسن صنعاً، ويقدم نفعاً! مثله في ذلك مثل من أخبرنا الله عنهم في كتابه، وتوعدهم في خطابه فقال سبحانه: ( قل هل نبكم بالأخسرين أعمالأً الذين سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)/104-103/ الكهف.
أيها الأخوة والأخوات: إن عوامل الفرقة والشقاق، كانت ولازالت تعمل في جسد هذه الأمة، ولكن الرعيل الأول، بيقظة ووعيه، غالباً ما استطاع أن يجد من آثارها، وستقلع كثيراُ من جذورها… وما ظهرت معالم الشقاق والافتراق يوماً إلا في غفلة من الصالحين، ومكر من الماكرين وإن الأمة الإسلامية اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى، أن تنتزع تلك العوامل المفسدة في حياتها، وتقضي على بذور الشقاق والافتراق بين صفوفها، معتصمة بحبل الله المتين، ومتجنبة الأخطاء والعثرات، ساعية في محو آثارها، والقضاء على سلبياتها..
ويوم تتيقظ الأمة لواجبها، وتجعل الوحدة أولى أولوياتها، وتسعى جاهدة في القضاء على بذور الشقاق والافتراق في صفوفها، تسلم لها وحدتها، وتحفظ لها خصائصها، ويرهبها أعداؤها، ويرضى عنها ربها، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جمعياً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمة إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك بين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )/105-103/ آل عمران.
والحمد الله رب العالمين..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..