آفاق الالتزام الشرعي

27 إبريل 1998 | رسائل الهدى

الحمد لله رب العالمين والصلاة و أتم السلام على سيدنا محمد ، وعلى أله وصحبه أجمعين .
أيها الأخوة  والأخوات : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فقد شاع مصطلح ( الالتزام ) في هذا العصر على ألسنة الباحثين وأقلامهم ، التعبير عن التمسك مما يعتقده المرء ويوجبه على نفسه ، والثبات عليه والدوام في أي مجال من مجالات الحياة ، فإذا جاء ذكره في مجال التدين ، كان معناه : الأحد بما ألزم الله به عباده من التمسك بأوامره واحتساب نواهيه والوفاء بميثاق العهد الأول الذي عليهم ، أن يوحده ، ويعبدوه ويقيموا الدين بشرائعه وأحكامه ، الذي أنزله الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى :  } وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (172) سورة الأعراف ، وقال تعالى :   {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (170) سورة الأعراف َ
وعندما ينظر المرء في أحكام الدين يرى أنها ليست على مرتبة واحدة من حيث الأهمية ، ودرجة الالتزام الإلهي للعباد ، فمنها ما يعد الخروج عنه مخرجاً من الملل كالقطعيات في العقيدة ، وما هو معلوم من الدين بالضرورة ، ومنها مالا مخرجاً من الملة ، وإنما هو جنوح عن الحق وتقصير ، أو ما يسمى في المصطلح الشرعي ( فسقاً ) ، كترك بعض الواجبات ، أو ارتكاب بعض المحرمات ، ومنها ما يعد الخروج عنه تقصيراً بما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من كمال ، وحرص على كريم الأخلاق والفعال . كما أن تفاوت مدارك الناس وأفهامهم ، واختلاف هممهم وعزائمهم يجعلهم على مراتب متفاوتة من حيث الالتزام بالدين ، والحرص على تحقيق مراتبه وآفاقه .
أيها الأخوة والأخوات : تتجلى أهمية الحديث عن أفاق الالتزام الديني من الوجهة التربوية في مجالات عديدة نلخص أهميتها في النقاط التالية :
1. مراعاة التدرج في التربية والتلقين ، وإعطاء الأفعال السلوكية مراتبها الشرعية الصحيحة ، و أولوياتها المناسبة ، وما يناسب كل مرحلة من أساليب ووسائل .
2. تنبيه المربين إلى أن من أهم الأسس التربوية غرس الاندفاع في نفوس المتلقين عنهم ، للالتزام السلوكي بدافع من حب الحق والخير .
3. استنهاض الهمم إلى الأفاق السامية التي ينبغي للإنسان أن يتطلع إليها ، ولا يقف عند عتبتها الدنيا .
ويمكننا تقسيم أفاق الالتزام الشرعي إلى ثلاثة أفاق هي :
1. لأفق التكليف : وهو الالتزام السلوكي بدافع الإلزام الشرعي فعلاً أو كفاً ، وهو الدرجة الدنيا من هذه الأفاق ، ويسع العامة من المؤمنين ، إذ إن مبدأ العبد وأول هممه: أن يطع الأمر ، ويجتنب  النهي ، ويحرص على الدخول في دائرة الطاعة ورحاب العبودية
وزاد هذا الأفق ومتطلبه : الصبر والمجاهدة ، فالصبر أمر به النبي صلى الله عليه وسلم منذ أول عهده بالرسالة :إذ قال الله تعالى له :   {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر* والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربك فاصبر }(1)–(7 ) سورة المدثر ،وقال تعالى :   {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (10) سورة المزمل ، كما خاطب المؤمنين في آيات كثيرة يأمرهم فيها بالصبر بأنواعه ، ومنها قوله تعالى :   {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ و َصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران ، مما يدل  دلالة واضحة على حاجة الإنسان الملحة إلى الصبر ، ليقطع رحلة الحياة بجد ونجاح ، ويتحقق له في العاقبة الفلاح .
وأما المجاهدة : فهي من بذل الجهد واستفراغ الوسع في طاعة الله تعالى ، وإنما من المقاومة ، لما فيها من المعاناة ، إذ إن العبد يجاهد نفسه الأمارة بالسوء وهواه ، ويجاهد وساوس الشيطان الذي يزين له الغواية ، ويصده عن طريق الهدى ..
وقد دعانا الله إلى أنواع المجاهدة ، فقال تعالى :   {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ { (78) سورة الحـج ، وأخبرنا سبحانه أن المؤمن إذا فتح له باب المجاهدة فتح له باب نال به من الله تعالى كل خير وتوفيق  فقال سبحانه :   {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت
2. أفق التشريف : وهو أفق يرتفع إليه المؤمن إثر الالتزام بالأفق الأول ، والعمل بمقتضاه ، والرسوخ في مقام الصبر ومجاهد النفس ، وهو لخاصة المؤمنين . ومتطلباته : الكرامة والهزة ، إذ يستشعر العبد التشريف والتكريم الإلهي بكل ما كلف به من هذا الدين ، والذي يحقق للإنسان الكرامة الإنسانية  ، التي لن تتحقق له بغير هذا الدين ، قال تعالى : } لقد كرمنا بني ادم { الإسراء /70/ ، وقال سبحانه : {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب  . وعندما يتحقق الإنسان بهذه الكرامة الإنسانية ، يترقى إلى أن تكون له العزة بين الناس ، قال تعالى :  {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون ، وقال أيضاً :   {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } (10) سورة فاطر وقال سبحانه :   {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } (54) سورة المائدة .
3. أفق الإحسان : وهو أفق العبودية المثلى المعبر عن السمو الإيماني في أعلى درجاته ، حيث نرى الإنسان يلتزم بكل ما يلتزم به مع عدم وجود رقيب من البشر يطلع عليه ويراقبه ، كما أنه لا يفعل ذلك خوف عقوبة الخالق أو سخطه ، إذ لم يوجب عليه سبحانه ما يقوم به من تطوع  ، وإنما جعله نفلاً وقربه يتقرب به إليه ، ويتوضح  لنا هذا بالنظر المتأمل في حياة العشرة المبشرين بالجنة وسلوكهم : هل كان التزامهم بما أمر الله واجتنابهم لما نهى عنه ، وما يقومون به من أعمال الخير والبر شكا منهم فيما بشروا به ، أو عدم اطمئنانهم لما جاءهم من بشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم ..! لقد كانوا على يقين تام بوعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن وصولهم إلى درجة السمو الإيماني جعلهم لا يستطيعون أن يتخلوا قيد شعرة عما هم عليه من أعمال الخير والبر ، بل يزيدون في ذلك ويحسنون . وقد روي عن بعض السلف أنه قال : ( لو قيل لي : ستموت غداً لما استطعت أن أريد شيئاً في عملي ) .
أيها الأخوة والأخوات : تتجلى أثار التعرف على هذه الافاق في عدة مجالات منها :
1. في مجال التعرف على الأحكام الشرعية ، والحرص عليها
2. في مجال تنوع هذه الأحكام وشمولها .
3. في مجال التربية على قطع منازل هذه الأفاق ، بتقديم الأهم على المهم، وتقديم واجب الوقت على الواجب الموسع ، والواجب المتعدي نفعه على الواجب قاصر النفع على صاحبه ، فضلاً عن تقديم الواجب على المسنون او المستحب .
ومما تجد ملاحظته في هذا السياق :
1. التداخل بين الأفاق ، فليس كل أفق مفصولاً عما سواه بحدود مانعة .
2. تنقل الإنسان بين أفق وآخر على حسب ما يعتريه من أحوال وتقلبات ، ولا يعد من أهل أفق إلا  إذا تمكن فيه
3. لكل أفق من هذه الأفق مراتب عديدة ، يترقى فيها المؤمن بقدر سعيه ومجاهدته في سبيل ذلك ، والتوفيق من الله سبحانه وحده .
نسأل الله عز وجل ان  يجعلنا من عباده الملتزمين بشرعه ، الواصلين إلى مقام السمو الإيماني والمتمكنين من درجة الإحسان .. إنه ولي التوفيق .
وآخر دعوانا  أن الحمد لله رب العالمين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

التاريخ :  1/1/1419 هـ.
الموافق : 27/ 4/ 1998 م.