أجوبة على تساؤلات حول الحراك الشعبي 14

2013 | أجوبة على تساؤلات حول الحراك الشعبي, سلسلة مقالات فقه المحنة

كتب إلي أحد الأحبة شاكرا على بيان فقه الموازنات في المقالة السابقة، وكيف تعامل معه علماؤنا لتحديد موقفهم من الأزمة، ثم يقول: قرأت لبعض العلماء المعاصرين إنكار ما يسمى (فقه الواقع) واعتماد بعض العلماء عليه في فتاواهم!!! فما هي حقيقة فقه الواقع، وما صلته بفقه الموازنات؟!
وفي الإجابة عن هذا أقول:
فقه الواقع أحد أنواع الفقه، ولا غنى للعالم والمفتي عنه، فهناك فقه النصوص، وفقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وفقه المراجعات…إلا أن بعض هذه الأنواع من الفقه لم تبرز بهذا الاسم في بعض العصور، وإن كانت ملحوظة في مضامينها لدى الفقهاء…
لكن كثر تداولها اليوم في الكتابات العلمية والدعوية، نظرا لشدة الاحتياج إليها، وغفلة كثير من أهل العلم عنها، حيث صدرت أحكام شرعية جديدة عن بعض أهل العلم، لم يراعَ فيها فقه الواقع أو فقه الموازنات أو فقه المآلات، فلم تكن هذه الأحكام صالحة للتطبيق، ولم تحقق المقاصد الشرعية في حياة الناس !!

إن فقه الواقع مقتبس من المنهج القرآني والنبوي، كغيره من أنواع الفقه، ومن هنا كان علاج القرآن الكريم للمشكلات القائمة في المجتمع العربي أول ما نزل، قائما على العلم والمعرفة الكاملة بواقع الناس وبيئتهم التي يعيشون فيها، فقدم الدعوة إلى توحيد الله عز وجل على غيرها في مجتمع وثني، كما تدرج في تحريم الخمر مراعاة لواقع انتشاره الكبير في حياة الناس…
وترك رسول الله صلى الله وعليه وسلم اختياره لهدم الكعبة وإعادة بنائها من جديد، نظرا لحداثة قومه بشرك، وكتب الوثيقة السياسة بعد الهجرة ملا حظا فيها واقع الناس وتعدد شرائح المجتمع…
وعلى هذا المنهج كانت فتاوى علماء الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين في جميع أحوالهم، وكان معظم اختلاف المذهب الجديد للإمام الشافعي في مصر عن مذهبه القديم في العراق بناءً على تغاير الواقع والأعراف بين البلدان.
وقد استخدم مصطلح فقه الواقع بعض علمائنا المتقدمين صراحة كابن القيم وغيره… فهو فقه أصيل لا يستغنى عنه، ولا يصح أن تحجبنا المصطلحات المتطورة عن المضامين الثابتة.

أما عن علاقته بفقه الموازنات، فسأترك الإجابة عنها إلى المقالة التالية إن شاء الله خوف الإطالة.

***

أيها الأحبة:
استكمالا للإجابة عن التساؤل السابق حول علاقة فقه الواقع بفقه الموازنات أقول:
إن فقه الموازنات يقوم على مقومين أساسيين هما:
1- فقه النصوص الشرعية.
2- فقه المقاصد الشرعية.
كما يقوم على مقومات تبعية أخرى يختلف وجودها وعدم وجودها تبعا لطبيعة المسألة التي يراد إصدار الحكم فيها، ومن هذه المقومات التبعية فقه الواقع، وفقه المآلات…
ففقيه الموازنات ينظر أولا: -بعد انتهائه من النظر في المقومين الأساسيين- في الواقع الذي يراد إسقاط الحكم عليه، فيتعرف على طبيعته واحتياجاته من جهة، كما ينظر في مدى إمكان تحقق مقاصد الشرع من خلال الحكم فيه من جهة أخرى.
كما ينظر ثانيا: فيما يؤول إليه هذا الحكم في مثل هذا الواقع من تحقيق مصالح أو درء مفاسد، وذلك بناءً على مايغلب على ظنه في ذلك، ولا يكلف شرعا بأكثر من ذلك.
فإن غلب على ظنه تحقق المقصد الشرعي على وجه كافٍ في هذا الواقع، وعدم ترتب مفاسد أكبر من المصالح المتوقعة فيه، أطلق حكمه فيه بناءً على هذه الموازنة، وإلا، صار إلى حكم آخر يكون في اجتهاده أكثر تحقيقا للمقاصد الشرعية، والمصالح المرعية…وهو على كل حال مأجورٌ أجرين إذا أصاب، وأجرا واحدا إذا أخطأ في اجتهاده…ومن هنا تظهر العلاقة القوية متكاملة بين أنواع الفقه.
ونظرا لدقة هذه الموازنات وأثرها الكبير في إصدار الأحكام، كانت محصورة في العلماء والفقهاء الراسخين في العلم، دون غيرهم من طلبة العلم أو العامة. وكلما كانت المسألة المدروسة أكبر وأخطر، كان من الضروري أن يكون الاجتهاد فيها جماعيا شوريا…
ومن هنا كان فقد العلماء من أكبر المصائب، وكان وجودهم والرجوع إليهم أمانا للأمة من الضلال…
أسأل الله عزوجل أن يحفظ لنا علماءنا، وأن يوحد كلمتهم، وأن يسددهم في اجتهاداتهم وموازناتهم، وأن يعوضنا عمن فقدنا منهم، إنه سميع مجيب.

***

أيها الأحبة:
أود قبل أن أغادر الإجابة عن التساؤلات السابقة حول فقه الموازنات وفقه الواقع، أن أشير إلى ملاحظة مهمة قد تعيننا على فهم كثير من مشكلاتنا العلمية والاختلافات القائمة هي:
إن عدم الانضباط بالضابط الشرعي الملزم بالرجوع إلى أهل العلم والذكر في المسائل الغامضة من جهة، وجرأة كثيرمن طلبة العلم وأهل الفكر، على اقتحام باب الموازنات الفقهية من جهة أخرى، سبب لنا في هذا الزمن الصعب كثيرا من الإشكالات، وأفرز لنا كثيرا من الاختلافات في القضايا الكبرى، مما أوقع كثيرا من شباب الأمة في الحيرة والاضطراب.
إذ يُقدمُ كثير من طلبة العلم وأهل الفكر من غير الفقهاء في المسائل الدقيقة، معتمدين على فهمهم الواسع للواقع المحيط بهم، وبناءً على توقعاتهم لما تؤول إليه الأمور على عقد بعض الموازنات، إلا أن جهلهم أو قصور علمهم في المقومين الأساسيين من مقومات فقه الموازنات وهما: (فقه النصوص الشرعية، وفقه المقاصد الشرعية) يجعل موازنتهم مختلة، ونتائجهم خاطئة، كما أن بعض أهل العلم الخبراء بفقه النصوص الشرعية والمقاصد الشرعية، يقدمون على الفتوى في مسائل دقيقة على الرغم من بُعدهم عن الواقع وعدم معرفتهم به معرفة كافية، وقلة خبرتهم، ومعرفتهم بما تؤول إليه الأمور من خلال بعض الأحكام والمواقف، مما يجعل موازناتهم مختلة أيضا، وأحكامهم خاطئة.
ولا بد لتلافي هذه المشكلة من تعاون وثيق بين الفقهاء والمفكرين، وبين الشيوخ والشباب في سبيل الوصول إلى الموازنة الفقهية الدقيقة في المسائل الكبرى، حيث يقدم المفكرون والخبراء من الشباب وغيرهم للعلماء والفقهاء خبرتهم، فتسّتكمِلُ الموازنة بذلك مقوماتها الأساسية والتبعية على أحسن وجه، فلا غنى لطرف عن آخر…وبهذا يتحقق التعاون الواجب على البر والتقوى، وتسلم مجتمعاتنا من الشذوذات الفقهية والتخبطات العلمية والفتاوى الغريبة والمواقف العجيبة التي كثيرا ما يعاني المسلمون منها في مختلف أوطانهم…ورحم الله امرءا عرف حده فوقف عنده.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وفقها في الدين.