القاعدة والفائدة الدعوية الثانية والثلاثون في جانب تزكية النفس البشرية وتربيتها
ومن مظاهر الغلو في التزكية: (إساءة تطبيق مفهوم “العزلة”، والدعوة إلى البعد المطلق عن الناس)!!
فقد فعل بعضهم هذا مُستدلين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).(المائدة: 105).
وبأحاديث نبوية وردت في الفتن خاصة فعمموا دلالتها، كحديث البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ ، يَتَّبِعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ)، وغيره من أحاديث عديدة وردت في باب الفتن.
وقد نبه العلماء إلى الخطأ في الاستدلال بهذه النصوص على فضل العزلة مطلقا، فعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (أيها الناس إنكم تقرأون هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: “إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزوجل أن يعمهم بعقابه).(رواه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجة).
وروي عن الإمام أبي سليمان الخطابي -رحمه الله- قوله: (… إنما نريد بالعزلة: ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، وإلف العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه، كان جديراً ألا يحمد غِبُّه، وأن تستوخم عاقبته، وكان سبيله، في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه).
ويقول الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر: (فكم فوتت العزلة علماً يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب).