القاعدة والفائدة الدعوية الثالثة والثلاثون في جانب تزكية النفس البشرية وتربيتها
ومن مظاهر الغلو في التزكية: (الرهبانية والتبتل):
ويراد بها: (المبالغة في العبادة، والبعد عن ملذات الحياة بدافع الخوف من الله)
وقد ابتدعتها النصارى من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله تعالى، يقول تعالى:
(… وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).(الحديد: 27).
وقد فكر بعض الصحابة -رضون الله عليهم- بشيء من ذلك، فنهاهم ﷺ كما جاء في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: (جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ، وَلاَ أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
كما منع ﷺ عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- عن صيام الدهر وقيام الليل كله، جاء في حديث مسلم:
(عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِىِّ ﷺ وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَىَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِى: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ!!! قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ. قَالَ: فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. قُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِىِّ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ. قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. قَالَ: وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ. قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِى كُلِّ عِشْرِينَ. قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِى كُلِّ عَشْرٍ. قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِى كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَىَّ. قَالَ: وَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ ﷺ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِى لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ. قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِى قَالَ لِىَ النَّبِىُّ ﷺ فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّى كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِىِّ اللَّهِ ﷺ).
فردهم رسول الله ﷺ جميعا إلى الاعتدال والتوازن في أداء الحقوق جميعها، فليس من كمال البشر أن يكونوا كالملائكة -عليهم السلام- الذين فطرهم الله على الطاعة!!!